26. صديقي علاء

ECRITS
0
                                                        

حسن الولهازي (تونس)
صــديـقــي عـــــلاء

      كنت أسرع الخطى، وأشقّ صفوف المارّة في هذا السوق اللعين. لا أمرّ منه من دون أن أشمّ الرّوائح الكريهة ومن دون أن أسمع السباب واللعنات والشتائم ومن دون أن أنال نصيبي من الدفع والركل. ولكن ما حيلتي وهذا الشارع هو أقصر طريق يربط منزلي بمقرّ عملي. كنت أسرع الخطى كالعادة، وإذا بيد تمسك كتفي فلم ألتفت وقد تعوّدت على مثل هذه الحركات في سوق يغصّ بالمارّة. ولكن هذه اليدّ راحت تضغط وتجذبني إلى الخلف، فالتفتّ فوجدت صديقي علاء. فسلّمت عليه بحرارة وذهبنا إلى مقهى قريب نسترجع ذكريات الطفولة. راح علاء يذكّرني بفضلي عليه ويمدح خصالي. فمنذ غادرنا مقاعد الدراسة لا ألتقي بعلاء إلا ويذكّرني بفضلي عليه. ومسألة الفضل هذه قصّة طويلة. كان علاء زميلا لي في الدراسة. كان زميلا خدوما، وصديقا وفيا. مستواه الدراسي كان متوّسطا، ولكن كان جدّيا وذا أخلاق سامية. اليوم هو أستاذ جامعي، مشهود له بكفاءة عالية في اختصاصه. والفضل في التحوّل يعود كما يقول هو إليّ.
كنّا في التاسعة أساسي، وهي سنة تفضي لإجراء مناظرة الالتحاق بالمعاهد النموذجية. كنّا في شهر ديسمبر وقد عدنا من عطلة الشتاء، جاءني علاء متجهّم الوجه، عبوسا، تدلّ ملامح وجهه على حزن مستفحل. فقلت له:
- ما لك؟ ماذا حصل؟ لماذا تبدو متجهّما؟
- أتراني كذلك؟
- نعم! تبدو مهموما.
- الواقع أنّ عدّة مشاكل حصلت بين أبي وأمّي وقد غادر أبي المنزل وأقسم --- بأغلظ الإيمان أنّه لن يعود أبدا.
- لا حول ولا قوّة إلا بالله.
- لقد قضيت العطلة وأنا أفكرّ في مصير أمّي وإخوتي.
- وإلى أيّ شيء انتهيت؟
- أنا كبير إخوتي. يجب أن أضحّي من أجلهم ومن أجل أمّي.
- تضحّي!! تضحّي كيف؟
- قرّرت أن انقطع عن الدراسة.
- ماذا تقول؟
- سوف أشتغل.
- تشتغل!! ماذا ستشتغل؟ ومن سيشغّلك؟
- لا أعرف. سأبحث عن أي شغل.حتّى ولو اشتغلت نادلا في مقهى أو بائع منادل ورقية في المحطّات.
- لا! أنت بهذا الشكل تهين نفسك.
- هذا أفضل من أن تتسوّل أمّي أو تشتغل معينة منزلية في ديار الغرباء فيشتمونها ويذلّونها.
- لماذا لا تفكّر إلا في المصائب أليس هناك حلّ أفضل من هذه الفرضيات المشؤومة؟
- لقد فكّرت وفكّرت حتّى أرهقني التفكير وجفاني النوم. ولم أعثر على حلّ يرضيني. ولا يذهبنّ في ظنّك أنّني كرهت الدراسة أو أنّني أتحجّج بهذا الخصام لأغادر المدرسة.
- مهما كانت الأسباب ومهما كانت الظروف لا يجب أن تنقطع عن الدراسة حتّى لا يحصل لك ما حصل لسمير.
- ومن سمير هذا وماذا حصل له؟
- سمير هذا هو جارنا هو الآن كهل في الخمسين من عمره. حصل له ما يحصل لك أنت الآن. وانقطع عن الدراسة بدافع مساعدة أمّه وإخوته. فماذا كانت النتيجة؟  كان أصحاب المصانع يشغّلونه أوضع الأعمال لمدّة اشهر ثمّ يطردونه بحجّة عدم الكفاءة. ظلّ على تلك الحال أغلب فترات شبابه. فترات سادها التسكّع أكثر من الشغل. في النهاية وجد شغلا في ورشة لدبغ الجلد. قضى فيها سنتين فقط. ولأنّ ظروف العمل كانت تعيسة وغير صحّية، مرض بأمراض متعدّدة وأصبح يتردّد باستمرار على المستشفى فطرده صاحب الورشة لكثرة غيابه وتراجع مردوده. فندم المسكين على المطبّ الذي وضع فيه نفسه. وشعر أنّه أضاع مستقبله الذي حلم به فتعكّر مزاجه وأصبح متشائما فأهمل العناية بمظهره وأصبح يتغيّب على المنزل وينام في الشارع وفي النهاية جنّ. تراه فتشعر بالمرارة.
 تملل علاء في مكانه وقال:
ـ ومن قال لك أن ما حصل لهذا الشخص الذي تتحدّث عنه سوف يحصل لي؟
ـ لست متأكّدا أن ما حصل له سوف يحصل لك، كما أنّني لست متأكّدا أن ما حصل له سوف لن يحصل لك. وأنت ليست حياتك رخيصة حتّى تغامر بها. لو كان لك عمران لأمكنك التضحية بواحد منهما ولكن لك عمر واحد. فكيف تغامر به والمغامرة تحتمل النجاح والفشل؟ انقطاعك عن الدراسة غلط، ولا يمكن أن تصلح أوضاعا بغلط.
ـ ومن سيكفّل بمصاريف دراستي ويهتمّ بعائلتي؟
ـ لنتّفق أوّلا أن مسألة الانقطاع عن الدراسة مسألة لا يجب الخوض فيها مجدّدا مهما كانت الظروف.
ـ اتفقنا. وبعد.
ـ هناك عدّة حلول. سوف أقنع والدي بأن يخصّص لعائلتك بعض المال شهريا ثانيا سوف نتّصل بمدير المدرسة ونعلمه بوضعيتك هناك جزء من ميزانية المدرسة يخصّص لمساعدة المحتاجين من التلاميذ كما أنّنا سوف نتّصل بمنظّمة التربية والأسرة.
 لمّا طرحت هذه الأفكار أمام علاء تهلّلت أسارير وجهه وشعر أن هناك بصيصا من الأمل. بعد أيّام نفّذنا ما اتفقنا عليه. ولحسن الحظّ وجدنا المساعدة من كلّ الجهات. الطريف في الأمر أن هذه الحادثة غيّرت علاء جذريا. فهجران والده للعائلة والمساعدة التي وجدها من الغير كلّ ذلك جعله يشعر بالمسؤولية، فاهتمّ بدراسته أيّما اهتمام، فتحسّنت نتائجه تدريجيا وأصبح من الأوائل. وظلّ يترقّى في سلّم العلم والمعرفة، وها هو الآن أستاذ جامعي. وظلّ كلّما يلتقي بي يذكّرني بأنّ لي فضل عليه. فأقول له بكلّ تواضع أن الفضل لنجاحه في حياته يعود إلى اجتهاده وجدّيته وأخلاقه الحميدة وكذلك يعود للأقدار التي لا نعرف ما تخطّطه لنا. 


      


Tags

Enregistrer un commentaire

0Commentaires

Please Select Embedded Mode To show the Comment System.*

To Top