5. خصائص السلوك الحضاري وكيفية اكتسابه

ECRITS
0
                                                                          

حسن الولهازي (تونس)


خصائص السلوك الحضاري وكيفية اكتسابه

 في الواقع كلّ سلوك إنساني هو سلوك حضاري بقطع النَّظَرِ عن العصر الذي يوجد فيه ذلك الإنسان أو اللغة التي يتكلَّمُها أو النّشَاط الذي يقُوم به. فالسّلوك الحضاري هو سلوك يتعارض مع السّلوك الطبيعي اللاّواعي، لذلك فكلّ سلوك يقوم به الإنسانُ ليتجاوز وضعه الطبيعي هو سلوك حضاري. وسواء كان تحدي الإنسان للطبيعة هامّا وجدّيًا كما هو الحال عند الإنسان المعاصر أو محدودا كما هو الحال عند الإنسان البدائي، فهذا لا يمنع من اعتبار الإنسان البدائي متحضّرا لأنّ الأسلحة الحجرية التي صنعها هي شكل من أشكال تجاوز  الظروف الطبيعية التي وُجد فيها. فالحضارة تطوّرت مع الإنسان المعاصر لكن لم تُخلق معه.
 نستخلصُ من هنا أن كلّ إنسانٍ مهما كان مستواه الحضاري ومهما كانت بيئته هو متحضّر وله سلوك حضاري. هذا من الناحية النظرية، لكن من الناحية الواقعية نَطّلِع في بعض الأحيان على تصرّفاتٍ بشريةٍ يصعب اعتبارها سلوكات حضارية كالسّلوكات اللاأخلاقية المرتبطة بالقتل والاغتصاب والعنف. وهذا السلوك اللاأخلاقي اللاّحضاري لا يُوجد فقط على مستوى فرْدي، فقد يوجد أيضا على مستوى جماعي فما قام به الوندال أو أعراب بني هلال أو الحزب النازي ...يصعب اعتباره ممارسات حضارية من جهة ما. إذا ما هو السلوك الحضاري الجدير بهذه التسمية؟
صحيح أن كلّ سلوك، هو سلوك حضاري ولكن شتّان بين سلوك حضاري وسلوك سلوك حضاري آخر.
يبدو أن أفضل سبيل لتحديد حقيقة السلوك الحضاري هو أن نتجاوز ما هو حاصل من السلوكات إلى ما يجب أن يحصل. أي لن نصف سلوكا موجودا بل يجب أن نشرّع لسلوك يجب أن يوجد. فليس أمامنا إلاّ أن نشرّع للسلوك الحضاري. فما هي خصائص هذا السلوك؟

I
- مرتكزات السلوك الحضاري أو خصائصه
السلوك الحضاري هو سلوك مثالي نطمح لنجسّده ويمكن تحديد خصائصه كالتالي:
1- هو سلوك ينبني على العقل(سلوك مُعَقْلَن)
يوجد الإنسان بين أمرين متناقضين. فالمجتمع يطالبه بجملة من الواجبات كالانضباط واحترام الغير وإتباع القانون ...وطبيعته الداخلية (الغرائز) وهي منبع الأنانية تطالبه باللهث وراء الرّاحة واللّذة. والواقع أن الإنسان يقضي حياته متناقضا بين المطلبين. ويبدو أن السلوك الحكيم، السلوك الحضاري هو السلوك الذي يوفّق بين القيام بالواجب الأخلاقي والتنعّم بالحياة. فالإنسان يخطئ عندما يسعى ليكون ملائكة كما يفعل النسّاك والمتصوّفة كما يخطئ عندما ينحدر نحو الحيوانية لا يهمّه غيرِِ تحقيق غرائزه.
2- السلوك الحضاري هو سلوك المربِّي
إن التربية هي المعرفة التي نكتسبها والتي من شأنها أن تؤثر على سلوكنا. لذلك تُوجّه التربية عادة للأطفال حتّى يكون سلوكُهم مستقيما. ويتصرّف الكهول على أنّهم مربّون. كلّ شخص يتصرّف على أساس أنّه مُربِّي، أي يسعى دائما إلى تثقيف غيره لاشك يتصرّف تصرّفا حضاريا. طبعا لا يمكن لأي شخص أن يربّي غيره ما لم يمتثل هو نفسه لما يُطالب الغير به. كما يؤمن هذا الشخص المربّي أن التربية لا توجّه فقط للصبيان. فالإنسان يتربّى طوال حياته كما أنه يتربّى في نفس الوقت الذي يُربّى فيه.
3- إن السلوك الحضاري ينبني على الطاعة لا على الخضوع
أن نطيع القانون أو الواجب معناه أننا مقتنعون به فنحن نسانده ونعترف به ونمتثل له. وهكذا لا نشعر أنّنا نخضع لأمر خارجي. عكس ذلك، فإن الشخص الذي يرى أنّه يخضع للقانون هو شخص لا يؤمن بضرورة القوانين ويرى فيها سلطة قاهرة.إذًا كلّ شخص له سلوك حضاري يعتقد أنّه يطيع القوانين ولا يخضع لها. طبعا إذا كانت السلطة جائرة والقوانين ظالمة، فإن السلوك الحضاري يقتضي التمرّد والنضال.
4- السلوك الحضاري هو سلوك ذو أبعاد إنسانية
ليس عيبا أن يسعى الإنسان لتحقيق مصالحه وقضاء شؤونه ولكن يجد نفسه أحيانا مضطرّا للتضحية من أجل الغير، كمساعدة أعمى على قطع الطريق أو إنقاذ غريق أو الدفاع عن الوطن...إن السلوك الحضاري يتناقض مع الأنانية. هو سلوك منْفتحٌ على الغير على الإنسان مهما كان لونه أو جنسه أو دينه أو لغته، يؤمن أن الذات الفردية لا قيمة لها خارج المجتمع والإنسانية.
II
- كيفية اكتساب السلوك الحضاري
1- المؤسسات التي تربّي الفرد على السلوك الحضاري
من أهمّ المؤسسات التي تربّي الفرد على السلوك الحضاري نجد: الأسرة، المدرسة، وسائل الإعلام. تتلقّى الأسرة الطفل كائنا طبيعيا يميل إلى الحيوانية والهمجية ويرفض التأطير فتأخذ في صقله وتثقيفه بتعليمه جملة من الواجبات. وهي بذلك تعدّه لكي يكون فردا صالحا في المجتمع. ثم ينتقل بعد ذلك إلى المدرسة. فتواصل المدرسة في ترسيخ تلك المبادئ الأخلاقية المكتسبة. وتسعى وسائل الإعلام هي أيضا إلى ترسيخ الحسّ المدني وإيجاد عادات سلوكية حضارية كالتثقيف الصحّي والتضامن ونجدة المنكوب في حوادث الطرقات أو الحرائق وكذلك دعوتهم إلى التصرّف الحكيم في الموارد والطاقة. فالأخبار التي يطّلع عليها ليس لغاية الإطلاع في حدّ ذاته وإنّما ليغيّر سلوكه نحو الأفضل. طبعا نتحدّث هنا عن وظيفة وسائل الإعلام من الناحية النظرية أي من من حيث ما يجب أن يكون ولكن الواقع أن هناك وسائل إعلام غايتها هي تجميل صورة الحاكم.
لكن هذه المؤسسات يقتصر دورها على النصح والإرشاد فقط وهناك من لا يعمل بها ولا تؤثر فيه هذه النصائح. من هنا تتدخل أجهزة أخرى تُجبره على السلوك الحضاري.
2- السلط التي تجبر الفرد على السلوك الحضاري
هناك جملة من السّلط تلزم الفرد بالسلوك الأخلاقي الحضاري وتتوعّده بالعقاب إذا لم يقم بذلك. من بين هذه السّلط:
أ-السلطة الدينية: الأديان السماوية تلزم كلّ فرد بالقيام بجملة من الواجبات والسلوكات التي يمكن اعتبارها حضارية كالتراحم والتعاون ويهدد الله الكافر بحرقه في الآخرة وعذابه في الدنيا.
ب-السلطة الاجتماعية: كلّ مجتمع توجد عادات وتقاليد وأعراف تهمّ طرق الزواج والتحية والترحيب والأكل واللباس... فمتى اتّبع الفرد الأنماط السلوكية في مجتمعه عُدّ سلوكه حضاريا وإن خالفه عدّ شاذا. فمعروف أن الرجل في أغلب المجتمعات لا يلبس تنّورة عكس ذلك يعتبر لباس الرجل الأسكتلندي للتنّورة سلوكا عاديا وحضاريا. يواجه المجتمع كلّ من كان سلوكه غير حضاري بالسخرية والمقاطعة. لكن يمكن أن يوجد في المجتمع منحرفون لا يتأثّرون بالسخرية والمقاطعة، من هنا لا بدّ من سلطة أشدّ هي سلطة الدولة كي تحافظ على الحضارة.
ج-السلطة السياسية: من أجل المحافظة على النظام الاجتماعي، تقف الدولة بالمرصاد للمجرمين والمنحرفين وتستند في إنجاز مهمتها تلك على الأجهزة الأمنية: الشرطة، أعوان الأمن، المحاكم ...ولولا الدولة لانهارت الحضارة وتفشّت الهمجية. لكن مهما كانت سلطة الدولة ومهما كانت قوّتها فإنّها لا تستطيع منع حصول الجرائم والسلوكات اللاحضارية. فالدولة تجتهد في منع وقوع الانحراف ولكن تدخّلها يظهر جليّا بعد الانحراف. قد يعاقب المنحرف بعد فعلته، ولكن المعضلة أننا لا نستطيع أن نمنعه قبل الإقدام عليها. فما هو السبيل للتجوهر بالسلوك الحضاري؟ ما هو العامل المؤسس للسلوك الحضاري؟
3- المؤسس الفعّال للسلوك الحضاري
قد نُربّي الفرد على السلوك الحضاري ولكن يحصل أن لا تنفع فيه التربية، وقد نجبره على السلوك الحضاري ولكن يحصل أن لا ينفع معه الجبر. فكم من منحرف يدخل السجن ويخرج منه ويعود إليه بعد جريمة أفضع من جرائمه السابقة. إن أفضل سبيل للسلوك الحضاري هو: الاقـتناع الذاتي. فما هو المقصود بالاقتناع الذاتي وكيف نصل إليه؟
المقصود بذلك هو أن يصل الفرد إلى درجةٍ من الوعي تجعله يقتنع بضرورة السلوك الحضاري، أي أنّه لا يشعر أنّه يقوم بذلك السلوك غصبا عنه، أي أنّنا لو نُنَصّبه مشرّعا للسلوك، لما شرّع غيره. عندما يشعر التلميذ أن من مصلحته الأخذ بنصائح مربّيه، ساعتها يصبح سلوكه حضاريا.
أما كيف يصل الفرد إلى الاقتناع الذاتي فتلك مشكلة يطول الحديث فيها. فهناك من يرجع انعدام اقتناع الفرد بقيمة السلوك الحضاري وبالتالي عدم إتيانه به إلى غياب الوازع الديني، وهناك من يرجعه إلى طغيان الحضارة المادية وقيام جاهلية القرن العشرين كما يسمّيها البعض، وهناك آخرون يرجعونه إلى تعمّق الصراع بين الأجيال وانحراف جيل الحرية عن المبادئ الأخلاقية للأجداد.
ورغم قيمة هذه الأسباب، فإن هذه المعضلة تعود في نظري إلى سببيْن، إذا فهمناهما وعملنا بما يُمْلِيَانِه علينا، تقطع الإنسانية أشواطا في التحضّر بالمعنى الإيجابي.
السبب الأوّل: معلوم أن الإنسان كائن مفكر. ولكن ننسى أو نتناسى أنّه جسد أيضا. وهذا الجسد له حاجيات تتطلّب التلبية. وانعدام تلبيتها يؤثر على الفكر والسلوك. ولهذا فإتيان الفرد بسلوك حضاري رهين تلبية حاجياته المادية ومتطلباته الضرورية عموما. عندما يشعر الفرد أنّه مهدّد في وجوده ومصالحه، فإن ذلك يدفعه إلى الانحراف عن السلوك الحضاري غصبا عنه. فكيف لموظف ينتقل بوسائل النقل العمومي ويتأخّر باستمرار عن عمله بسبب وسائل النقل هذه، المكتظة دائما، أن لا يضطرّ في النهاية إلى أن يتكئَ ويدفعَ ويركلَ إن لزم الأمر عند الصعود إلى الحافلة.  فالضرورات تبيح المحظورات. ومن المحظورات السلوك اللاحضاري.
السبب الثاني: ولكن لنفترض أننا وفّرنا للمواطن بنية أساسية جيدة وخدمات رفيعة: وسائل نقل مريحة، خدمات إدارية سريعة، خدمات صحية راقية وبخسة الثمن، طرقات معبّدة، تعليم جيّد...يبقى هناك مشكل آخر وهو احترام المسؤول لمن هم تحت مسؤوليته. سواء كان هذا المسؤول: أبا، أستاذا، مديرا، صاحب مصنع، وزيرا، رئيس دولة... كلّ مسؤول يجب أن يحترم الآخر. الاحترام في معناه الشامل، احترام خصوصياته وقرارته، وحرية تفكيره وتعبيره. لأن عدم احترام المسؤول للآخر يجعل الآخر يدافع عن نفسه وينتقم بالتخريب.
خلاصة القول إن تلبية حاجيات الفرد الضرورية التي تسمح له بـأن يكون فعّالا في المجتمع، واحترامه كإنسان احتراما يجعله مبدعا، هما أساسا السلوك الحضاري. إذا لم يحصل ذلك فلن ينفع الوعظ والإرشاد مع الحرمان
.
Tags

Enregistrer un commentaire

0Commentaires

Please Select Embedded Mode To show the Comment System.*

To Top