17. هل ننتهج في التعليم نهج التكوين الشمولي أم نهج الإختصاص؟

ECRITS
0

حسن الولهازي (تونس)

هل ننتهج في التعليم نهج التكوين الشمولي أم نهج الإختصاص؟

إن المعرفة الإنسانية في تطوّرها تسير من الشمولية إلى الإختصاص. فعلى نقيض الفيلسوف التقليدي الذي هو في نفس الوقت فيزيائي وطبيب وميتافيزقي...نجد العالم اليوم مختصّا في ميدان ما ويجهل حتّى الميدان القريب منه كجهل الفيزيائي لعلم الفلك، بل أكثر من ذلك نجد في ميدان علمي نظنّ  أنّه علم موحّد، فروعا وإختصاصات. كالتفريعات التي نجدها في الفيزياء والكيمياء والرياضيات والطبّ وعلم النفس واللغة( نحو وصرف وعروض) وعلم الأديان....
إنّ التطوّر المتمثّل في التفريع المتزايد لا شكّ إيجابي بإعتبار أنّه تجاوز للجهل وإكتشاف لعوالم كانت مجهولة. وهو في نفس الوقت إنتقال من الغموض إلى الوضوح، ومن العمومية إلى الدقّة. ويحتار الفكر كيف يلمّ بهذه العلوم المتعدّدة والمتطوّرة وكيف له إلى جانب ذلك أن يتقن بعض اللغات الحيّة. فكلّ علم يغريه بكشوفاته، وكلّ لغة تغريه بإمكانية الإتصال بالعظماء الذين كتبوا بها. فالدارس يفضّل أن يقرأ ابن خلدون بالعربية وشكسبير بالأنقليزية وغوته بالألمانية وأفلاطون باليونانية...
إنّ وزارات التربية والمعارف والعلوم في عدّة بلدان، إيمانا منها بضرورة هذه المعارف المختلفة وفوائدها لكلّ فرد، انتهجت سياسة التكوين الشمولي للتلميذ ويتجلّى ذلك أوّلا في كثرة المواد المُدرّسة في مختلف مراحل التعليم: الأساسي أو الإبتدائي و الإعدادي والثانوي والعالي. وثانيا في تأخير التوجيه أو الإختصاص بدعوى ترك مدّة أطول أمام التلميذ من أجل تكوين عام وشامل قبل الإختصاص.
فهل من الضروري أن نُرسي التعليم على مبدأ التكوين الشمولي للتلميذ؟
إنّ التكوين الشمولي للتلميذ أوّلا غير ممكن وثانيا غير مثمر وثالثا لا يولّد مبدعين.
أوّلا التكوين الشمولي غير ممكن
إنّ التكوين الشمولي المعمّق في اللغات  والعلوم والآداب غير ممكن ويفوق طاقة البشر فهو مستحيل. فمن له معرفة معمّقة بحقول المعرفة هذه؟ ولو سألنا المشرفين على حظوظ التعليم والتربية حول ما يدرّس للتلميذ حاليا، لقالوا لنا إن التكوين الذي يتلقّاه لا هو بالتكوين السطحي ولا هو بالتكوين المعمّق هو تكوين يراعي سنّ التلميذ وقدرته ويقتصر على مبادئ العلوم واللغات وهي مبادئ ضرورية لكلّ شخص في هذا العصر. إنّ هذا التصوّر يبسّط الأمور زياّدة عن اللزوم، ويصوّر البرنامج أو المقرّر الذي يتلقّاه التلميذ على أنّه البرنامج الضروري الذي لا محيد عنه وكأنّه مفروض علينا فرضا ولا يقبل التعديل. وإن سألنا هؤلاء المشرفين عن معاناة التلميذ بسبب كثرة المواد، ردّوا بأنّها معاناة تقتضيها المسيرة التعليمية فحسب. فهل أن معاناة التلميذ هي فعلا كذلك عادية وضرورية؟
ثانيا التكوين الشمولي غير مثمر
لا نريد أن نلغي المعاناة التي يجدها التلميذ في الدراسة ولكن هذه المعاناة يجب أن تكون مدروسة. الحاصل هو أنّنا شتّتنا جهود التلميذ –بسبب كثرة المواد بدون أن يسيطر حقيقة على مجال معيّن. التلميذ الحالي هو تلميذ مشوّش الذهن، يعمل في فوضى، يراجع مادّة وعينه على مادّة أخرى. فلم ترسخ المعلومات في ذهنه كما ينبغي. وكأنّنا درّبناه على السطحية والخطف، أردناه أن يكون فالحا في كلّ شيء فلم يفلح في أيّ شيء، ووقف عند عتبة كلّ علم دون أن يتمكّن من الدخول. وهذا هو السبب الذي يجعل أغلب المتعلّمين ينسون ما درسوا بمجرّد أن يختصّوا في مجال معيّن أو ينقطعوا عن التعليم. قد يقول البعض إن المدرسة تمدّ التلميذ بالمبادئ وبإمكانه هو بعد ذلك أن يعمّق دراسته، فالمدرسة تصقل الذهن ولا تحشوه، وذهن مصقول خير من ذهن مشحون كما يقال. أكيد أن هذا التوجّه سليم ولكن كيف يصل التلميذ ليعمّق معرفته و بالتالي يبدع وهو لم يتوصّل لإستيعاب مبادئ المواد العديدة التي يدرسها. وهذا يعني أن التكوين الشمولي لا يولّد مبدعين.
ثالثا التكوين الشمولي لا يولّد مبدعين
يجب أن نقول وبصفة قطعية إنّ التكوين الشمولي لا يولّد مبدعين أو عباقرة. فلا يكون لنا عباقرة أو مبدعون إلاّ بالإختصاص المبكّر. طالما أن الحياة الدراسية للتلميذ مفضية آجلا إلى الإختصاص، وطالما أن المتعلّم ينسى ما لا علافة له بالإختصاص، فلماذا لا يكون الإختصاص عاجلا؟ ويمكن للتلميذ ذي القدرة الرفيعة أن يطالع ما شاء من الكتب وفي شتّى الإختصاصات الأخرى. ورغم كلّ ما قلناه لنسلّم جدلا بأن التكوين الشمولي أمر مرغوب فيه وحقّ لكلّ شخص، فنحن مضطرّون إمّا للتضحية بالتكون الشمولي في سبيل الإبداع أو التضحية بالإبداع في سبيل التكوين الشمولي. ويبدو من المنطقي وبالنظر للظرف التاريخي الذي نحن فيه الآن، أن نضحّي بالتكوين الشمولي في سبيل الإبداع. بدون هذا السبيل سيكون هناك مبدعون، ولكن سيكونون قلّة كالعادة فلماذا لا نسهّل عليهم الإبداع؟ إنّ التكوين الشمولي يجعلنا نخسر المبدعين فهو مضرّ من هذه الناحية. 
إن المطلوب اليوم من كلّ فرد هو الإبداع ولا شيء غير الإبداع. من أجل من؟ من أجل أنفسنا ومن أجل الوطن. إن الدوّل الضعيفة والفقيرة في حاجة لمبدعين. ولا يكون هناك إبداع إلا بالإختصاص المبكّر.
عندما نتأمّل اليوم العلاقات الدولية نجد أن القانون الذي يحكمها هو قانون الغاب. حتّى منظمة "الأمم المتّحدة" التي بعثت من أجل فضّ النزعات وإحلال أخلاق الإخاء والتعاون، تبيّن الآن أنّها هيكل بائد أُختزل دوره في إضفاء الشرعية الدولية على نزوات الدوّل القوية. فكيف نتحّث عن "أمم متّحدة" من جهة ونفاضل بعضها عن بعض من جهة أخرى ونمنحها حق الفيتو. وضعيتنا نحن كدوّل ضعيفة وفقيرة تتطلّب منّا التحدّي. لقد آن لهذه الشعوب أن تنتفض. إن قيمة الوطن بعدد عظمائه والعظماء هم المبدعون، ولا يحصل هذا الإبداع إلاّ متى إنعكف التلميذ منذ الصغر على ميدان معين يصرف فيه كلّ جهوده. أي عيب في أن يجهل طبيب ماهر اللغة الفرنسية والجغرافيا؟ أليس الوقت الذي سيصرفه في معرفة الجغرافيا، تكوينه الطبّي أوْلى به حتّى ينافس أعظم عباقرة الطبّ في العالم؟ ألا تغطّي إكتشافاته الطبية عن هذه النقائص إذا إعتبرناها كذلك؟ لقد آن الأوان لنضحّي بالإنسان المثقف في سبيل العالم المبدع. كلّ فرد يجب أن يضحّى بتكوينه الشمولي في سبيل الوطن. لقد ضحّى أجدادنا في سبيل الوطن و اليوم تطرح التضحية بشكل آخر. يجب أن نفهم أن لا قيمة للفرد خارج الوطن وأن قيمته تستمدّ من قيمة وطنه.   
يتبيّن لنا ممّا سبق أن مصير بلادنا رهين السياسة التعليمية وأفضل نهج تنتهجه هو الإختصاص المبكّر .
حسن الولهازي
Tags

Enregistrer un commentaire

0Commentaires

Please Select Embedded Mode To show the Comment System.*

To Top