تحليل نــــــــــــــصّ:
لإريك فروم حول الذات والمصلحة الذاتية
يقول أريك فروم:
"إن المفهوم الحديث
للمصلحة الذاتية هو خليط عجيب من مفهومين متناقضيْن: مفهوم كالݡان ولوثر من جهة،
ومن جهة أخرى مفهوم المفكّرين التقدّميين منذ سپينوزا. وكان كالݡان ولوثر يعلّمان
أن الإنسان يجب أن يقمع مصلحته الذاتية واعتباره مجرّد وسيلة لمقاصد الله. وعلى
العكس، كان المفكّرون التقدّميون يعلّمون أن الإنسان يجب ألاّ يكون غاية إلاّ
لذاته وليس وسيلة لأيّ قصد يتجاوزه. وما حدث هو أن الإنسان قَبِلَ محتويات
الكالݡانية عند رفضه صياغته الدينية. فجعل نفسه أداة لا لمشيئة الله بل للآلة
الاقتصادية والدولة. لقد قبل دور الأداة، لا لله بل للتقدّم الصناعي، وعمل وكَنَزَ
المال ولكن من حيث الأساس لا من أجل لذّة إنفاقه والتمتّع بالحياة بل من أجل أن
يوفّر ويستثمر ويكون ناجحا. وحلّ محلّ الزهد الرهباني، كما أشار ماكس ݡيبر Max Weber زهد دنيوي ـ باطني لم تعد فيه السعادة والمتعة الشخصية هدفي الحياة
الحقيقيين. ولكن هذا الموقف كان ينفصل باطّراد عن الموقف المعبّر عنه في مفهوم
كالݡان ويختلط بالمفهوم المعبّر عنه في المفهوم التقدّمي للمصلحة الذاتية، الذي
كان يعلّم أن للإنسان الحق -والواجب- في أن يجعل متابعة المصلحة الذاتية المعيار
الأسمى للحياة. والنتيجة هي أن الإنسان يعيش وفقا لمبدأ نكران الذات ويفكّر على
أساس المصلحة الذاتية. وهو يعتقد أنّه يعمل لصالح مصلحته في أن شاغله الأكبر هو
بالفعل المال والنجاح، وهو يخدع نفسه لئلاّ يرى أنّ أهمّ إمكانياته غير متحقّقة
وأنّه يفقد ذاته في عملية البحث عمّا يفترض أنّه الأفضل له.
إن التدهور الذي لحق بمعنى
مفهوم المصلحة الذاتية وثيق الصلة بالتغيّر في مفهوم الذات. ففي العصور الوسطى كان
الإنسان يعتقد أنّه جزء جوهري من الجماعة الاجتماعية أو الدينية
بالرجوع إلى ما تصوّره عن ذاته عندما كان بوصفه فردا لم يخرج من جماعته تماما
بعدُ. ومنذ بداية العصر الحديث، عندما كان الإنسان بوصفه فردا تواجهه مهمّة أن
يعيش ذاته بوصفه كيانا مستقلاّ، أصبحت هويته مشكلة. وفي القرنين الثامن عشر
والتاسع عشر صار مفهوم الذات يضيق باطّراد، وصار يُعْتقد أن الذات تشكّلها الملكية
التي يملكها الفرد. ولم تعد صيغة هذا المفهوم للذات "أنا ما أفكّر" بل
"أنا ما لديّ"، "ما أملك".
وفي الأجيال القليلة الأخيرة،
وفي ظلّ تنامي تأثير السوق، تحوّل مفهوم الذات من معنى "أنا ما أمتلك"
إلى معنى "أنا كما تريدني" فالإنسان، في عيشه في اقتصاد السوق، يشعر
أنّه سلعة. فهو منفصل عن نفسه، كما ينفصل بائع السلعة عمّا يريد أن يبيعه. ومن
المؤكّد أنّه مهتمّ بنفسه، ومهتمّ كثيرا بنجاحه في السوق، ولكنّه "هو"
المدير والمستخدم والبائع – والسلعة. ويتبيّن أن مصلحته الذاتية هي
"مصلحته" بوصفه الشخص الذي يستخدم "نفسه" سلعة يجب أن تنال
السعر الأفضل في سوق الشخصية".
أريك فروم "الإنسان من أجل
ذاته"
الفصل
الرّابع "مشكلات فلسفة الأخلاق الإنسانية" من ص168 إلى ص170
ترجمة محمود منقذ الهاشمي
التخطيــــــــــــــــــــــــــــــــــــط
-Iالمشكل الذي يطرحه المفهوم
الحديث للمصلحة الذاتية
1) مفهوم كالڥان ولوثر للمصلحة
الذاتية
2) مفهوم المفكّرين التقدّميين
للمصلحة الذاتية
3) الأبعاد الأخلاقية التي يطرحها
المفهوم الحديث للمصلحة الذاتية
-II تغيّر
مفهوم الذات من العصور الوسطى إلى الآن
1) نظرة الإنسان لذاته في
العصور الوسطى: ذات هي جزء من الجماعة.
2) نظرة الإنسان لذاته في بداية
العصر الحديث: ذات تبحث عن هوّيتها.
3) نظرة الإنسان لذاته في
القرنين الثامن عشر والتاسع عشر: ذات تشكّلها الملكية.
4) نظرة الإنسان لذاته في وقتنا
الحاضر: سلعة يجب أن تنال السعر الأفضل في سوق الشخصية.
التمهيــــــــــــــــــــــــــــد
للفلسفة
مزايا عديدة ولعلّنا لا نجانب الصواب إن حصرنا هذه المزايا في اثنتين
هما: معرفة ما يجب أن يعرف وهي الحقيقة وانتهاج ما يجب أن يسلك وهو الفضيلة. ولا
يتحقّق المطلب الأوّل بلا نقد ولا يتحقّق المطلب الثاني بلا تحديد للواجب. والواقع
أن المطلبيْن متكاملان. فحسب أفلاطون معرفة الحقيقة تؤدّي حتما إلى
الفضيلة. لذلك اعتبر أن أفضل من يسيّر المجتمع هم الفلاسفة.
رغبة الفيلسوف في معرفة الحقيقة
بما فيها من تمرّد على الإيديولوجيا السائدة، وانتهاج الفضيلة بما فيها من خروج
على التقاليد المتّبعة دليل على أن الفيلسوف لا يهمّه أن يحيا بل يهمّه أن يحيا
كما ينبغي. لذلك يضطرّ إلى نقد ما هو سائد من معارف وسلوكات. وربّما أهمّ موضوع
يجب النظر فيه لمن يروم الحقيقة والفضيلة هو معنى المصلحة الذاتية باعتبارها محورا
تدور حوله عدّة قضايا أخرى كالصحّة والمعرفة والسعادة والنجاح والسكينة والربح
والملكية...
الإشكاليــــــــــــــــــــــــــــــــة
ما هو المفهوم السائد للمصلحة
الذاتية؟ ما هي المصلحة الذاتية كما يفهمها الفيلسوف؟ هل هناك عوائق تحول دون
بلوغها؟ ما هي نوعية الشخصية التي أخطأت تحديد مصلحتها الذاتية؟ وهل أن الشخصية
تحدّد حسب نظرتها لمصلحتها الذاتية؟ وإذا كان الأمر كذلك هل نتحدّث عن شخصيات بعدد
الرؤى للمصالح الذاتية؟
التحليـــــــــــــــــــــل
-Iالمشكل الذي يطرحه المفهوم الحديث للمصلحة الذاتية
1) مفهوم كالڥان ولوثر للمصلحة
الذاتية
كيف نظر إنسان القرون الوسطى
للمصلحة الذاتية؟ باعتبار أن الإبستيمية (وهي جملة الأحكام والمواقف في عصر معيّن
أو باختصار فلسفة عصر معيّن) التي تسيّر وعي المجتمع في تلك الفترة هي ابستيمية
دينية، فإن إنسان القرون الوسطى يفهم مصلحته الذاتية كما يحدّدها له الدين. فكيف
ينظر الدين لمصلحة الفرد؟ مصلحة الفرد حسب الدين تتمثّل في أن يعبد الله ويتّكل
عليه فهو لم يخلق إلاّ لذلك ولن يوفّق في أي عمل صالح إلاّ بمساعدة الله. أمّا ما
يعتبره الزنادقة مصلحة ذاتية فليس إلاّ صوت النفس الأمّارة بالسوء والتي تقود إلى
الأنانية والفحشاء والمنكر وهي مصلحة يجب قمعها. هكذا كان جان كالڥان ومارتن لوثر
يعلّمان. فالله أدرى بمصلحتنا من أنفسنا وقدرته مطلقة وحتّى المصيبة التي تصيبنا
هي اختبار لإيماننا. ومتى تمسّك الإنسان بإيمانه رغم المصائب فاز بالداريْن.
مصيبة التفكير الديني وخاصّة
المسيحي، أنّه ينطلق من قاعدة هي التي تفسّر كلّ الأحكام –على المصلحة الذاتية أو
غيرها- وهذه القاعدة هي أن الإنسان خلق في مأزق وله ديْن (دين الوجود، فالوجود
مزيّة من الله) عليه أن يفي به و"الخلاص هو بالإيمان وحده". هذا هو شعار مارتن لوثر.
مصلحتك هي في العبودية لله. واضح ممّا سبق أن في مواقف كالڥان ولوثر لا تعدّ سعادة
الإنسان غاية الحياة بل أصبح الإنسان نفسه في هذه الحياة وسيلة لغايات تفوقه.
2) مفهوم المفكّرين التقدّميين
للمصلحة الذاتية
منطق الإدانة والديْن وقع رفضه
في الفلسفة الحديثة خاصّة مع سبينوزا. الإنسان ليس مدينا لأيّ كان وخلق ليكون
سعيدا مستمتعا بالحياة. والقول إنّه خلق ليعبد الله معناه أنّه خلق لأجل غاية
تتجاوزه فهو مجرّد وسيلة في حين أنّ الإنسان ليس وسيلة لأيّ شيء، هو غاية لذاته،
أي أن الغاية من وجوده هي خدمة نفسه. وقد ركّز كانط على هذه النظرة الإنسانية
للإنسان معتبرا أن الإنسان هو الكائن الوحيد في الطبيعة الذي غايته هي ذاته وليس
وسيلة لأيّ شيء آخر.فهو حرّ في حياته يصرفها كما يحلو له شريطة أن لا يضرّ بغيره.
يقول سبينوزا "لا وجود لإله ولا
لشخص يتلذّذ بضعفي وشقائي إلاّ الحاسد. فهو لا يرى في الفضيلة إلاّ الدموع والنحيب
والخوف... التي هي علامات نفس ضعيفة. على نقيض ذلك بقدر ما نشعر بفرحة كبرى بقدر
ما نمرّ إلى كمال أفضل ".
وقد وصل الأمر بنيتشه وشترنر (Stirner) في دفاعهما عن مصلحة الفرد إلى
حدّ التنديد بحبّ الآخرين بوصفه ضعفا وافتراضا أن الفضيلة هي في الأنانية وحبّ
الذات ولكن يجب فهم ذلك كردّ فعل على الكبت الذي عانته الذات في القرون الوسطى.
فالإنسان عند التنويريين لا يجب أن يخضع البتّة لا لله ولا للغير.
3) الأبعاد الأخلاقية التي
يطرحها المفهوم الحديث للمصلحة الذاتية
هل اتبع الإنسان المعاصر
المصلحة الذاتية كما هي فهمت في القرون الوسطى أم اتبع المصلحة الذاتية كما فهمها
المفكّرون التقدّميون منذ سبينوزا؟
الواقع أنّه أخذ عن اّلاتجاهين.
ولأنّ الاتجاهين متناقضان فقد زجّ بنفسه في مأزق أخلاقي فكان سلوكه سلوكا هجينا لا
يخدم مصلحته.
فتأثّره بالفكر الحداثي جعله
يلهث وراء مصلحته وفهم المصلحة في بعدها المادّي. فراح يجمع الخيرات المادية التي
كان الدين يحرّمها عليه الدين بإعتبار أنّه كان يدعوه للزهد وطلب الآخرة. فماذا
كانت نتيجة هذا التكالب على الثروة؟ أصبح الإنسان عبدا لها. كان عبدا للإله فأصبح
عبدا لطلباته المادّية. تغيّر المعبود وظلّت العبودية. وضعية الإنسان المعاصر
كوضعية البخيل الذي يقضي حياته يجمع المال ولا ينفقه خوفا من الفقر فيعيش فقيرا
رغم غناه. يعتقد الإنسان المعاصر أن المال وسيلة لخدمة مصلحته، ولكن تعظيمه لهذه
الوسيلة –المتأتّي من تعظيمه لمصلحته- جعله يخضع للآلة الاقتصادية والدولة ونظام
الوظيفة العمومية. فانجر وراء توسيع مشاريعه قصد الرّبح وأصبح يقوم بالساعات
الإضافية في العمل من أجل مزيد توفير المال وغيرها من الأعمال الأخرى. فماذا كانت
النتيجة؟ أصبح المال الذي كان منظورا إليه كمجرّد وسيلة، أصبح جمعه غاية في حدّ
ذاته. المصيبة أن كلّ هذا يتمّ على حساب مصلحة الإنسان الحقيقية أي على حساب صحّته
وسعادته وراحة باله وتطوير ثقافته. ورغم هذه الوضعية المزرية التي هو فيها " يعتقد أنّه يعمل لصالح مصلحته في حين أن شاغله الأكبر هو بالفعل المال
والنجاح".
ولسائل أن يسأل ما هي هذه
المصلحة الذاتية الحقيقية؟ رغم أن أريك فروم لم يفصّل القول في ذلك لكن
يفهم من سياق حديثه أن المصلحة الذاتية الحقيقية هي كلّ ما يخدم صحّة الإنسان
الجسدية والنفسية (كأن يكون مقبلا على الحياة متفائلا سعيدا ذا أخلاق حميدة...)
والذهنية (كأن يكون مقبلا على طلب المعارف مطّلعا على ما يجدّ من تطوّرات، وصاحب
قدرة ذهنية نشيطة وذاكرة جيّدة...).
ذهب في ظنّ الإنسان المعاصر
أنّه تخلّص من الثقافة الدينية ومن العبودية لله التي عانى منها طيلة قرون، لكن
الواقع أن العبودية ظلّت قائمة. المعبود فقط هو الذي تغيّر. كان الله فأصبح المال.
كان الإنسان زاهدا في الدنيا من أجل الآخرة، فأصبح زاهدا في الدنيا ولكن من أجل
الدنيا. كلّ المطالب السامية (الصحّة، السعادة، الذكاء،...) التي فقدها الإنسان
المعاصر، فقدها بسبب خوفه من فقدانها أو حرصه على تطويرها.
-II تغيّر
مفهوم الذات من العصور الوسطى إلى الآن
1) نظرة الإنسان لذاته في
العصور الوسطى: ذات هي جزء من الجماعة.
في القرون الوسطى وحتّى قبل ذلك كانت
علاقة الفرد بالجماعة التي ينتمي إليها علاقة قويّة. فشعوره بالانتماء للجماعة
حادّ والتزامه بتشريعاتها شديد. فهو يعدّ التضحية في سبيل الجماعة أو القبيلة أو
الدين جهادا والخروج عن هذه التجمّعات صعلكة. الإيديولوجيات السائدة في تلك الفترة
لا تشجّع على الاستقلالية في الحياة والرأي والشخصية. ربّما يعود ذلك إلى كثرة
الحروب والغارات المفاجئة وغياب الأمن عند التنقّل. وقد يؤخذ التمرّد على الحياة
مع الجماعة على أنّه مضرّ بها ولكن الجماعة كانت تعادي حتّى الاستقلال
في الرّأي فلم يكن يسمح بنقد الدين أو الإيديولوجيا السائدة. وما حصل لجردانو برنو
(Giordano Bruno :1548/1600)
وقاليلاي (Galiléo Galilée1564/1642) دليل
على ذلك.
فضعف الفرد من جهة وضغط الجماعة
من جهة ثانية جعلا الفرد في القرون الوسطى ينظر إلى نفسه على أنّه جزء جوهري من
الجماعة وليس له كيان خاصّ به أو بالأحرى لا يجب أن يكون له كيان خاصّ به مستقلّ
عن الجماعة.
2) نظرة الإنسان لذاته في بداية
العصر الحديث: ذات تبحث عن هوّيتها.
لكن بداية من عصر النهضة وقعت
ثورة شاملة على ابستيمية القرون الوسطى وشملت الثورة حتّى نظرة الإنسان لذاته.
اهتزّت ثقة الفرد في الثقافة الدينية وملّ من العبودية التي تكرّسها وأصبح يشعر
بقدرته على أن يصبح "سيّد الطبيعة ومالكها" كما يقول
ديكارت. تجسّد فلسفة ديكارت التي انطلقت من الشكّ، الحريّة والضياع. فالإنسان في
عصر النهضة يشبه الحصان الذي ظلّ لمدّة طويلة محبوسا في زريبة وعندما أطلق سراحه
شعر بالحرية والضياع، أين يتّجه وأين يقيم؟ وتجسّد فلسفة ديكارت في بدايتها الحرية
والضياع. يقول ديكارت في التأمّل الثاني "أيّ شيء أنا؟ أنا شيء يفكّر. وما هو الشيء الذي يفكّر؟ هو شيء يشكّ
ويدرك ويتذهّن ويثبت وينفي ويريد ويرفض ويتخيّل أيضا ويحسّ".
عمّقت فلسفة ديكارت وعي الذات
بذاتها بمعزل عن العالم وحتّى عن الجسد وبذلك خلقت إشكالية الذات والموضوع التي
كانت الإشكالية الرئيسية في الفلسفة الحديثة. وقد طرح كانط هذه الإشكالية وواصل
التوجّه المثالي الديكارتي فجعل الذات محور العالم في ما أطلق عليه هو الثورة
الكوبرنيكية في الفلسفة.
وقد صاحب هذا السعي لتعرّف
الذات على ذاتها، محاولة لفرض نفسها في الواقع عبر الاكتشافات الجغرافية واستغلال
الثروات الطبيعية والاستفادة من القوانين العلمية في الثورة الصناعية. حتّى أن
البعض عدّ القرن السابع عشر ميلادي هو القرن الذهبي في تاريخ البشرية. فماذا كانت
نتيجة هذا التوسّع في إثبات الذات؟
3) نظرة الإنسان لذاته في
القرنين الثامن عشر والتاسع عشر: ذات تشكّلها الملكية.
في القرنين الثامن عشر والتاسع عشر أصيب الإنسان بخيبة
أمل من هذا التوسّع في إثبات الذات. اكتشف أن المهمّ ليس في الاكتشاف والمعرفة
وإنّما في الملكية. فما منفعة بحّار من رحلة استكشافية تعود كلّ الخيرات التي
تجنيها للملك؟ اشتدّت رغبة إنسان تلك الفترة في الملكية في عالم كأنّه يكتشفه
لأوّل مرّة. وترتّب عن ذلك تنافس حادّ "وصار
مفهوم الذات يضيق باطّراد وصار يعتقد أن الذات تشكّلها الملكية التي يملكها
المرء". وتراجعت قيمة الاعتبارات الرّوحية لصالح المملوك
المادّي. فأصبحت قيمة الشخص تحدّد بما يملك. وكأنّ ممتلكاته المادّية
هي امتداد لذاته. وبالفعل نحن نشعر حيال الضرر الذي يلحق بما يخصّنا كالزوجة
والأطفال والأحفاد والأرض والسيّارة والحساب البنكي... كأنّه ضرر يمسّنا مباشرة في
أجسادنا. فعند فقدان أحد الأقارب أو اختراق حسابنا البنكي أو فشل مشروع اقتصادي
تتعكّر حالتنا الصحّية ونصاب بالاكتئاب وقد يتعدّى ذلك لمرض عضوي كارتفاع ضغط الدم
أو السكري. وهكذا كلّما تعاظمت مشاريع الفرد وزادت ممتلكاته شعر بالنشوة والانتصار
وكلّما حبطت مشاريعه وتقلّصت ممتلكاته شعر بالإحباط والانكسار وحتّى المرض.
إذا جاز أن نصف رجل المرحلة
السابقة بأنّه باحث مفكّر فإنّ رجل هذه المرحلة هو رجل مادّي أناني. ذلك يغلب عليه
البعد الرّوحي وهذا يغلب عليه البعد المادّي. فما هو البعد الذي يغلب على الإنسان
المعاصر في ظلّ العولمة وتطوّر وسائل الاتّصال؟
4) نظرة الإنسان لذاته في وقتنا
الحاضر: سلعة يجب أن تنال السعر الأفضل في سوق الشخصية.
في ظلّ تطوّر وسائل الاتصال
كالأنترنت والهواتف المنقولة والقنوات التلفزية الرقمية. لم يعد من المبالغة القول
إن العالم أصبح قرية. فبفضل الأنترنت أصبح بإمكان أفراد من كلّ القارّات التحاور
في نفس الوقت واللعب معا أو التحاور في منتديات فكرية وتبادل المعلومات. كما أمكن
تنزيل فيديوهات تعبّر عن ثقافات مختلفة. ما هي نتيجة هذا "الانفجار
الإعلامي"؟ النتيجة هي أن التأثير والتأثّر بين الأفراد أصبح سهلا. ونما
التقليد في السلوك والمحاكاة في اللباس والحلاقة والكلام... كما نجحت الموضة في
ضبط نماذج يقتدى بها. فماذا كانت نتيجة التقليد والمحاكاة؟
كانت النتيجة وخيمة على شخصية
الفرد. أصبح الفرد يرغب في أن يكون مثل النماذج (les stars). هذا
يحلق شعره مثل لاعب كرة قدم مشهور، وتلك ترقص رقصة مطربة مشهورة... كلّ فرد يريد
أن يكون مقبولا لا حسب معايير موضوعية عقلانية ولكن حسب معيار السوق أي
حسب ما هو متداول وكأنّه سلعة يجب الترويج لها "يجب أن تنال السعر الأفضل في سوق
الشخصية" كما قال الكاتب. أصبحت
هناك مقاييس للشخصية الناجحة وعلى كلّ فرد التقرّب من ذلك النموذج وإلاّ كسدت
شخصيته في المجتمع. وأكره ما يكره الإنسان المعاصر هو أن يقال له
"ديمودي" (démodé) أي غير
مواكب للحضارة والموضة وفي معنى رجعي ومتخلّف عن ركب الحضارة. منطق الحضارة
المعاصرة هو: عليك أن تتّبع ما هو سائد أو كما يقول العوام "ما هو خارج
اليوم" حتّى ولو كان ذلك ممّا يخالف الذوق السليم وقواعد الصحّة والنظافة.
هل يعقل أن تكون الذات النموجية
للبشرية بهذه الصفات؟ ذات تافهة لا لون لها ولا رائحة ولا طعم!!! لا يشغلها غير
التقليد. هذه النتيجة الوخيمة هي التي جعلت الكاتب ينتقل من الحديث عن المصلحة
الذاتية إلى الحديث عن الذات. لقد أخطأ الإنسان المعاصر في تحديد مصلحته وأفسد
ذاته. فتجاه مصلحته الذاتية اعتقد أنّها في المال والربح وتجاه ذاته اعتقد أنّه
يكون ناجحا عندما يقلّد المشاهير أو النجوم، فكان كالقرد الممسوخ الذي يثير السخرية
فلا هو ناجح ولا هو مشهور.
النقـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــد
1) في الواقع الصورة التي
قدّمها الكاتب عن الإنسان المعاصر تخصّ المواطن الأمريكي الذي يلهث وراء الربح
ويتّبع الموضة ويصعب أن نطلق نفس الأحكام على الشعوب الأفريقية وبعض دوّل آسيا
التي لا تعرف الموضة ولا التجارة الإلكترونية ولا البطاقة البنكية و لا الأنترنت.
وهذا النقد يجرّنا إلى نقد ثان.
2) هل يحق للفيلسوف أن ينصّب
نفسه قاضيا يحاكم ما هو ذاتي. أليس ما هو ذاتي يجب أن يكون ذاتيا؟ ألا يكون
الفيلسوف بسعيه لضبط المصلحة الذاتية الحقيقيّة قد حوّل ما هو ذاتي إلى ما هو عام؟
هل يمكن تقنين ما هو ذاتي؟ هل يحقّ لنا أن نقول عن البخيل أنّه أخطأ والحال أنّه
هو يرى أن مصلحته الذاتية هي في جمع المال؟ ألا يشبه الارتياح الذي يجنيه من بخله
ارتياحنا حيال ما نصنعه؟ أي فضيلة لنا نحن، والحال أن ما نقوله في شأنه لا يعدو أن
يكون هو بدوره رؤية ذاتية تلزمنا نحن؟
3) ما نقوله عن صعوبة تقنين
المصلحة الذاتية نقوله عن صعوبة وجود "شخصية نموذجية" لا كما يتصوّرها
العامي بل كما يتصوّرها الفيلسوف. فالفيلسوف ما نقد رؤية العامّي لما يراه (أي
العامّي) شخصية نموذجية، إلاّ على أساس أن له (أي الفيلسوف) تصوّر لما يجب أن تكون
عليه الشخصية النموذجيّة. وهذه الشخصية التي يدافع عنها ليست في الواقع إلاّ
شخصيته هو. يرى الفيلسوف نفسه الشخصية النموذجية الجديرة بالاحتذاء. ولكن ألا يقول
الصعلوك نفس الشيء؟ أليس هذا الإدّعاء هو الغرور بعينه؟
4) عندما ينصّب الفيلسوف نفسه
قاضيا ومصلحا اجتماعيا، يجب عندئذ أن نتساءل ما هو الفرق بينه وبين رجل الدين الذي
يدّعي هو نفسه أنّه مصلح اجتماعي؟ والغريب أن الفيلسوف لا يقف عند إصلاح التفكير
بل يتعدّاه إلى إصلاح السلوك تماما كالفقيه.
الخاتمــــــــــــــــــــــــــــــة
يبدو أن أولى موضوع يجب أن
تهتمّ به الفلسفة وتنقده هو نفسها. على الفلسفة أن تقيّم نفسها حتّى تتجنّب الوقوع
في الأخطاء التي تنقدها وحتّى لا ينطبق عليها قول أبي الأسود الدؤلي:
لا تنه عن خلق وتأت مثله۞
عار عليك إن فعلت عظيم
ابدأ بنفسك وأنهها عن غيّها۞
فإذا انتهت عنه فأنت حكيم
ولذلك يبدو أن الفلاسفة
الحقيقيين الجديرين بأن يوصفوا بالحكماء، ليسوا أولئك الذين ينقدون ويكتبون
وينشرون بل أولئك الذين جمعوا بين معرفة الحقيقة والفضيلة، أولئك الذين أصلحوا
الناس بسلوكهم الفاضل وباكتفائهم بالعيش في صمت وتواضع.
----------------------------------------------
مزيّة (جمعها مزايا) تعني فضيلة
ميزة (جمعها ميزات) تعني صفة
الغنى: كثرة المال. السعادة ليست في
الغنى
لا غنى عن: لا استغناء عن، في الكتابة لا
غنى عن القلم.
الغناء: ما يترنّم به من صوت. أطرب
للغناء الجميل.