هل أن وجود الكون دليل على وجود الله؟
يقوم الدين بعدّة وظائف، فهناك وظيفة نفسية تتمثّل في حماية الإنسان
في حياته وطمْأَنَتِه على مصيره بعد الموت، ووظيفة أخلاقية تتمثّل في
دعوة الإنسان لاحترام غيره، ووظيفة معرفية تفسّر الظواهر الطبيعية
والقضايا الماورائية.
ولكن الوظيفة النفعية للدين شيء والمشروعية المنطقية للدين شيء آخر. فإن كانت
للدين وظائف إيجابية، فلا يعني ذلك بالضرورة أن الأسس التي ينبني عليها
سليمة. فحتّى الوهم يمكن أن يخدم الإنسان. فإذا سلّمنا بأن الأساس الرئيسي
الذي ينبني عليه الدين هو وجود الله، فهل يمكن أن نسلّم بوجود الله؟ ثمّ إن
كان إثبات وجود الله ينطلق من وجود الكون، فهل أن وجود الكون هو حجّة على
وجود الله؟ فهل نحن عندما نتأمّل الكون نكتشف وجود لله أم نختلق وجوده؟ فهل
أن الله موجود لأنّه موجود بالفعل أم هو موجود لأنّنا لا نستطيع أن نحيا
بدونه؟
عندما نقول إن وجود الله مُدْرَك من وجود الموجودات فإنّنا نقرّ ضمنيا:
أ- أن إدراكنا للموجودات يسبق إدراكنا لله.
ب- إن إدراكنا للموجودات مباشر ويتمّ بالحواس، فالموجود المادي
يلزم فكري على الاعتراف بوجوده، بينما الله، ولأنّه مُدرَك من وجود
الموجودات، لا يُدرك بالحواس وليس له وجود مادّي، أي أن الله لا يكشف عن نفسه
مباشرة وإنّما وجوده يُستنتج بعد تفكير.
ت- عندما يفكّر الإنسان كيف وُجد الكون، عادة ما ينتهي به التفكير إلى
الاعتقاد في ضرورة وجود إله.
في حدود هذا المستوى ليس هناك مشكل. الخلط يقع في مرحلة ثانية. ماذا
يحصل عندما ينتهي التفكير بالإنسان إلى أن الله موجود؟ الحاصل هو أن
الإنسان ينسحب ويربط بين الله والكون ربطا واقعيا وهذا هو الخطأ. فهو قد
تناسى أنّه الوسيط الفكري الرّابط بين الله والكون. فهذا الرّبط الأخير ليس
واقعيا ولا تشهد به حواسّنا وإنّما هو ربط في الذّهن فحسب. قد يكون هناك إله
فعلا ولكن لسنا متأكدين من أنّه موجود فعلا طالما أنّه ليس موجودا ماديا.
فنحن هنا نشرّع بالفكر لوجود فعلي ومع ذلك ليس لنا حجّة واقعية على أنّه
موجود فعلي. على المتديّن أن يعترف أنّه ليس لنا سبيل لمعرفة هل خلقنا نحن
الله أم اكتشفنا وجوده لأن وجوده يظلّ ينحدر من تأمّلنا في الكون. لمزيد
الدقّة يجب أن نقول إن وجود الله لا يُستنتج من وجود الموجودات
وإنّما من وعينا بوجود الموجودات. لو يمنح المتديّن هذه الفكرة القيمة
التي تستحقّها، لقفز قفزة نوعية في وعيه بما يفعل. على المتديّن أن يجيب: كيف
يحوّل علاقته التأملية بالكون (المستوى النظري) إلى مسألة إيجاد (المستوى
الواقعي). هو يسمّيها اكتشاف وليس له حجّة على أن الأمر كذلك. إنّ المتديّن
يمرّ ببساطة من متأمّل للكون إلى موجِد لله وجودا فعليا رغم أنّه لم يشاهد
الله ولم يفعل غير التأمّل. إنّ المتدّين ومن حيث لا يشعر يرى في تغيّر
موقفه من الواقع، تغيّرا في الواقع فعلا. وكأنّ الكون كان بدون إله (قبل
التأمّل) وأصبح له إله (بعد التأمّل)، والحال أنّ التغيّر في النظرة لا في
الكون. فالمتديّن، عوض أن يقول:"أعتقد أن الله موجود"،
يقول:"الله موجود" في حين أن هناك فرقا كبيرا بينهما.
خلاصة القول إن الإنسان بمجرّد أن يشرع في التفكير في وجود الله، حتّى ينفيه
لأنّ منهجية البحث تقتضي أن يوضع هو (أي الإنسان) في الصدارة، وبذلك يكتسب
مشروعية نظرية أي يقف موقف المشرّع أو النافي لوجود الله. وهذا هو السبب الذي
جعل البعض ينتهي للإيمان والبعض الآخر للإلحاد، لأنّ القضية فكرية بحتة.
ومع كلّ ما قلناه فقد يُعترض علينا بالقول: إن كلّ ما قلناه لا ينفي
وجود الله، فلأن ّ الله روح وليس مادّة، نحن مضطرّون للتأمّل في الكون
واكتشاف وجود الله من خلاله. فما باليد حيلة. هكذا تجرى الأمور فالله نكتشف
وجوده ولا نختلق وجوده.
على هذا الاعتراض ردّي هو التالي: هذه الفرضية واردة ويمكن أن يكون
الله موجودا بالفعل ولكن بالنسبة لشخص يتمسّك بالحقيقة لا يمكن أن يحوّل
الفرضية إلى حقيقة. فنحن إلى حدّ الآن لم ننته إلى أن الله
موجود وإنّما إلى أن الله يمكن أن يوجد. وعلى المتديّن
أن يعترف أنّه يتمسّك بفرضية.
فهل يمكن أن نتجاوز الفرضية إلى الحقيقة؟
يستحيل ذلك، طالما أن الله روح أو فكرة. فالفكر لا بدّ أن نقوّمه
في اعتقاداته وهذا التقويم لا بدّ أن يكون من خارج الفكر وبالتحديد من
الواقع المادي هذا هو المنهج الضروري للحسم في المسألة. أما إذا تقوقع الفكر
على نفسه فإنّه لا ينشئ إلاّ الترّهات.
لا شكّ أن القارئ يريد أن يسألني الآن السّؤال التالي: هل تريد أن ينتصب الله
أمامك، وتلمسه بيديك لتسلّم بوجوده؟ بدون تحرّج أقول نعم. ليس هناك من سبيل
آخر. هذا هو السبيل الوحيد للإيمان الحقّ. بدون ذلك،كيف سنفرّق بين اكتشافنا
لوجود الله واختلاقنا لوجوده؟
قد يعترض عليّ معترض بالقول إن وجود الله يماثل وجود عقل الإنسان
فكلاهما موجود لا يُرى وطالما أنني أقرّ بأن عقلي هو روح موجودة ولا تُرى
فلماذا لا يكون الله كذلك. والردّ على هذا الاعتراض هو التالي: لو حاولت
أن أنكر أن لي عقلا لأنني لا أراه فإنني لن أستطيع ذلك لأنّ هذا الإنكار سوف
يكون بعقلي وبالتالي لو لا وجود عقلي لما أمكنه أن يناقش وجوده أو عدم
وجوده. وهكذا حتّى لو حاول عقلي أن يكذّب وجوده فلن يفلح في ذلك لأن حجّة وجوده
هي محاولة تكذيب وجوده. على نقيض ذلك، يبقى الله بالنسبة لي موضوعا
خارجيا ومجهولا لديّ. في العقل هناك وحدة الذات والموضوع، فهو في نفس الوقت
أداة بحث وموضوع بحث. كلّ المواضيع في حاجة لنثبت أو ننفي وجودها إلاّ
العقل، لأننا لكي نثبت أو ننفي المواضيع الأخرى (مادية أو روحية) لا بدّ أن
يكون هو موجودا أولاً.
ورغم كلّ ما قلناه يجد المتديّن نفسه محاصرا بأسئلة لا يجد لها دفعا
من قبيل:هل يعقل أن يكون هذا الكون قد وُجد صدفة؟ أليس من الضروري أن
يكون هناك خالق لهذا الكون؟ أليس لكلّ معلول علّة؟ هذه أسئلة مشروعة ولكن لا
يجب أن نسهو على أنّنا نحن الذين نسأل ونجيب، يعني نحن الذين نتوجّه إلى
الله ونبحث عنه وليس الله هو الذي فرض وجوده علينا. المهم هو أن لا نتخدّر بهذه
الأسئلة فنَنْسَى أنّنا نحن الذين نفكّر ونسأل ونجيب... إنّ مسألة وجود الله
هي مسألة نظرية مهما كان الموقف منها، فحتّى لو اعتقد المتديّن أن الله موجود
فيجب أن يعي أنّه اتّخذ موقفا من مسألة. فمهما كانت نتيجة بحثه، فلا يخرج ذلك
عن كونها فكرة مترتّبة عن نشاط الفكر. فلا يعقل لكونه إنتهى إلى أن الله
موجود، أن يصبح فكره مؤسسا لوجود ما يعتقد. لكن قد نسأل: هل عندما أعتقد
أن القلم الذي أمسكه موجود، هل يعني ذلك أنّه ليس موجودا فعلا وإنّما هو
مجرّد اعتقاد. قد نقول قياسا على التحليل المقدم أن القلم غير موجود طالما
أنّه مبني على اعتقاد وكلّ اعتقاد يحتمل الخطأ. على هذا الاعتراض أقول أن
الأمر يختلف. وجود الأشياء المادية سابق على فكري، بينما تجاه "الموجودات
الروحانية" فكري سابق عليها. فوجودها يتأسّس على فكري. الفرق بين
المتديّن والفيلسوف هو أن المتديّن يفرز وجودا من التفكير بينما الفيلسوف
يظلّ واعيا أنّه يفكّر حتّى ولو اعتقد في وجود ما هو غير مادي.
والحالة هذه لسائل أن يسأل لماذا الفيلسوف هو الوحيد الذي لا يتخدّر
بهذا السّؤال الذي هو: هل يعقل أن يكون الكون وُجد صدفة؟ السبب هو أن
الفيلسوف يعي بحيل العقل أثناء التفكير. فالعقل لا يعتبر نفسه قد فهم قضيّة
إلاّ عندما يربطها بسبب، وإذا عُرف السبب زال العجب كما يقال.ووجه
استغراب الإنسان من الكون هو أنّه يجد نفسه أمام ظاهرة ضخمة (الكون) يعتبرها
نتيجةً من جهة و لا يرى لها سببا ظاهرا من جهة ثانية، ولكن في نفس الوقت
لا يستطيع أن يقبل هذه الظاهرة بدون سبب. من هنا كان الله ضرورة عقلية
تمكّن الإنسان من قبول الكون. وهكذا يعتقد في وجود الله. إلى هذا المستوى
يقف المتديّن ولا يواصل استدلاله العقلي ليتساءل:ومن خلق الله؟ فهو أيضا
سؤال مشروع شأنه شأن السؤال الأوّل: من خلق الكون؟ فعندما نقول إن الكون لا
يعقل أن يوجد بدون سبب وأن الله هو خالقه وأن هذا الخالق هو الموجود الأوّل
ولم يصدر عن شيء سبقه، فإنّنا بذلك نكون قد فرضنا على العقل قبول ما لا
يقبله. المسألة تكمن في: هل من المشروع أن نسأل: من خلق الله؟
*إن أجبنا بالنفي قلنا ليس هناك موضوعية في هذه الإجابة لأنّنا بذلك نكون قد
سلّمنا بأن الله خالق غير مخلوق ونحن لازلنا في مرحلة البحث، فعلى أي أساس
نقول لا؟ وقولنا إنّه واجد ولا يمكن أن يوجد عن غيره لا يقنع
العقل بالمرّة ولو كان يقنعه وجود موجود بدون سبب لأقنعه أن الكون جاء بدون
سبب. ففي منطق العقل يتساوى الكون والله من حيث ضرورة تأطّر كلّ منهما في
علاقة سببية بحيث يكون كلّ واحد منهما سببا لما يلحقه ونتيجة لما يسبقه.
*وإن أجبنا بالإيجاب واعتبرنا أن كلّ سبب هو نتيجة لا بد لها من سبب،
كنّا تجاه سلسلة من الأسباب اللامتناهية وهكذا يعجز العقل عن الإجابة
النهائية.
يتبين لنا ممّا سبق أن الأمر الذي فرض وجود الله فرضا هو النظر للكون
على أنّه نتيجة. ولهذا نحن لا نعرف الله وإنما نعرفه بالكون،ولهذا أيضا
عندما يقول البعض إن الله موجود ونجهل كنهه، فذلك لأنّنا لسنا في حاجة
لكنهه وإنّما في حاجة لوجوده حتّى يصبح وجود الكون مقبولا عقليا.
خلاصة القول وجود الكون دليل على وجود الكون ولا يدلّ بشكل ثابت ويقيني
على وجود غيره. وهكذا يكون التيقّن في مسألة وجود الله أمرا مستحيلا.
فلا المتديّن أفضل من الملحد ولا الملحد أفضل من المتديّن.فالفيلسوف تجاه
موضوع وجود الله يجد نفسه أمام وضعيتيْن مأسويتيْن إما أن يسلّم بوجود
الله عشوائيا أو يتصالح مع الجهل، إمّا أن يكون مؤمنا دغمائيا أو جاهلا
لاأدريا.