الدراسة 11. نـظـرية كــانط فـي المــعـرفـــــة

ECRITS
0

حسن الولهازي (تونس)

نـظـرية كــانط فـي المــعـرفـــــة

المخطّط

أوّلا:أسسا فلسفة كانط

1)الأساس الأوّل: تخلّف الميتافيزيقا عن العلميّة يدفعنا لفحص أداة البحث وهي العقل

2) الأساس الثاني: البعد النظري في العلم أو التجريد، يدفعنا لتحليل المعرفة العلمية 

أ- النقدية أمام الريبية والدغمائية    

ب ـ كيف أمكن وجود العلم؟    

ثانيا: المذهب النقدي كتوفيق بين دور التجربة ودور العقل    

1ـ نقد كانط للعقلانيين بإقراره ضرورة التجربة للعقل    

أـ نقد كانط لديكارت    

2ـ نقد كانط للتجريبيين بإقراره ضرورة العقل للتجربة    

أ-العامل الأوّل: التجربة لا تصنع التعقّل    

ب-العامل الثاني: تحليل المعرفة العلمية نفسها يكشف عن ضرورة العقل    

ثالثا: تحليل ملكة المعرفة    

1) ـ نظرية المعرفة الحسّية المتعالية: الصوّر القبلية للانطباعات الحسّية (أو الإدراك الحسّي)    

أ- لا أستطيع أن أدرك الزمان والمكان حسّيا فلا وجود خارجي لهما فهما منفصلان عن الواقع المادّي ومن يدّعي أنّه لا يعرفهما لا يمكن أن نعرّفه بهما.    

ب- لا يستطيع الإنسان مهما حاول، أن ينكر وجود الزمان والمكان. هناك وعي قهري بهما.

ج-ملاحظات

2ـ المقولات القبلية للذهن وأنواع المعرفة العلمية    

أ- المقولات القبلية    

ب- المعرفة البعدية والمعرفة القبلية    

ت- الأحكام التحليلية والأحكام التركيبية    

*1) الأحكام التحليلية    

*2)الأحكام التركيبية 

ث- أنواع الأحكام حسب أنواع المعارف    

*1)-الفيزياء معرفة بعدية والأحكام فيها تركيبية بعدية    

*2)- المنطق معرفة قبلية والأحكام فيها تحليلية قبلية    

*3)- الرياضيات معرفة قبلية والأحكام فيها تركيبية قبلية    

ج- الفرق بين المعرفة القبلية عند كانط والمعرفة الفطرية عند أفلاطون    

ح-النتائج المترتّبة عن تحليل الذهن    

*1) الفرق بين النومان والظواهر    

*2) الموضوعية تتوقّف على العقل المنظِّم    

3ـ العقل الخالص ونقد الميتافيزيقا    

رابعا: تعليق على نظرية كــــانط في المعرفة    

 

 

 

نـظـريـة كانــــــط فـي المعــــرفـــة

 

أوّلا:أسـسا فلسفة كانط

1) الأساس الأوّل: تخلّف الميتافيزيقا عن العلميّة يدفعنا لفحص أداة البحث وهي العقل

يقول فارنند ألكيي " انطلق كانط من حدث هو التالي: الرياضيات والفيزياء تشكّلتا، الميتافيزيقا لم تتوصّل لتتشكّل كعلم".

« Kant part d’un fait : Les mathématiques et la physique existent, la métaphysique n’est parvenue à se constituer comme science » (Fernand Aliquié : La critique kantienne de la métaphysique p8)

 يشبّه كانط الميتافيزيقا بساحة منافسة استغرقت زمنا ومع ذلك لم يفز أحد بقصب السباق. في مجال الميتافيزيقا تتكدّس النظريات وتغيب الحقيقة. على نقيض ذلك خطت الرّياضيات منذ اقليدس خطوات هامّة نحو العلمية، أمّا المنطق فقد توضّحت معالمه مع أرسطو. وفي العصر الحديث خطى علم الفلك مع كوبرنيك وكبلر وكذلك الفيزياء مع قاليلاي ونيوتن خطوات هامّة نحو العلمية. فلماذا ظلّت الميتافيزيقا في هذا الوضع المتردّي؟ هذه "المعرفة التي على العقل، من ثمّ، أن يكون تلميذ نفسه، لم يحالفها الحظ، حتّى الآن، كي تتمكّن من انتهاج درب العلم الآمنة، مع أنّها أقدم من أي معرفة عقلية أخرى"(وهبة ص33). (2) 

« Cette connaissance n’a pas encore été assez favorisée du sort pour pouvoir entrer dans le sûr chemin de la science » (trad. Barni p40)  

[(2) الاستشهادات بالعربية تعود إلى كتاب "نقد العقل المحض" تعريب موسى وهبة. نشر مركز الإنماء القومي والإستشهادات بالفرنسية تعود إلى كتاب Critique de la raison pure traduction Jules Barni édition Flammarion Paris 1987.   ] إن هذا الوضع المتردّي يدفع بأي فيلسوف يروم حلّ القضايا الميتافيزيقية إلى الشعور بالإحباط. فهل سيأتي وهو الأخير بما لم يستطعه الأوائل؟ هل سيكون هو أفضل ممن سبقوه؟ لماذا لم تحلّ القضايا الميتافيزيقية إلى حدّ الآن؟ لماذا لم يحصل اتفاق بين الفلاسفة كذلك الاتفاق الذي نجده بين العلماء؟ أين يكمن المشكل؟ ما جدوى مواصلة النظر في القضايا الميتافيزيقية؟ يحلم كانط بمنهج شبيه بمنهج العلوم. عوضا عن عدم الاستقرار اللامتناهي للآراء وللطوائف المدرسية، يرى كانط أنّه لا بدّ من وجود قاعدة ثابتة لنمط المعرفة  تجمع المفكّرين. فبهذه الطريقة ألغى منهج نيوتن في علوم الطبيعة فوضى الافتراضات الفيزيائية في تمشّ سليم.

 يبدو أن الوضع يتطلّب ثورة كوبرنيكية في الفلسفة. فمثلما أن كوبرنيك عكس التصوّر العادي فمن الاعتقاد أن الشمس تدور حول الأرض إلى أن الأرض هي التي تدور حول الشمس، فلماذا عوض النظر في القضايا الميتافيزيقية، لا ننظر في الأداة التي ننظر بها في القضايا الميتافيزيقية أي العقل؟ لماذا لا يكون المشكل في الأداة التي ننظر بها في هذه القضايا؟ هل العقل أداة صالحة للنظر في القضايا الميتافيزيقية؟ أليس الأولى بالبحث هو العقل البشري للوقوف على إمكانياته وطاقتَه من حيث المجال الذي يمكنه أن يخوض فيه والمجال الذي لا يستطيع أن يصل فيه إلى نتيجة هامّة ويقينية؟ فقد يكون التناول النقدي للعقل هو الوحيد الكفيل بتجنّب الفلسفة الخصومات الميتافيزيقية التي لا طائل منها. فوضع الميتافيزيقيا المتردّي إذا هو الأساس الأوّل الذي دفع كانط لنقد العقل بمعنى تحليله. أما الكيفية التي سينقد بها كانط العقل فيبيّنها كالتالي: يقول كانط في "مقدّمة الطبعة الأولى لنقد العقل الخالص ص31 "إلاّ أنّي أفهم بذلك نقدا، لا للكتب والسساتيم بل، لقدرة العقل بعامّة" (وهبة ص26)

« Je n’entends point par là une critique des livres et des systèmes, mais celle du pouvoir de la raison en général » (trad. Barni p31)

2) الأساس الثاني: البعد النظري في العلم أو التجريد، يدفعنا لتحليل المعرفة العلمية

أـ النقدية أمام الريبية والدغمائية

ترى الريبية (scepticisme) أنّه يستحيل علينا معرفة العالم الموضوعي. فبالنسبة إليها، العقل الذي يتبجّح بقدرته على معرفة المطلق هو في الواقع ينسج أوهاما. فدفيد هيوم (1711/1776) بنقده لمبدأ السببيّة أراد أن يظهر للعقل أنّه يقع في الخطإ عندما يتبنّى بدون حجج السببيّة كمبدإ.

على نقيض الريبية تعتبر الدغمائية أو الوثوقية (dogmatisme) أنه في إمكان الإنسان معرفة ما يتجاوز التجربة بالعقل. فالعقل هو الذي ينقد ويعدّل ويغيّر وليس هناك ما يمكن أن ينقض أحكامه فهو السلطة العليا.

 يعتبر امانوال كانط (1724/1804) ريبية هيوم الخطوة الأولى في فلسفته النقدية. وأعجب بنقد هيوم للسببيّة أيّما اعجاب لدرجة أنّه قال "اعترف بصراحة أن تنبيه دافيد هيوم هو الذي قطع عنّي منذ سنوات سباتي الدغمائي وأعطى لبحوثي في الفلسفة النظرية وجهة أخرى" (مقدّمات لفلسفة مستقبلية).

« Je l’avoue franchement ce fut l’avertissement de David  Hume qui interrompit d’abord voilà des années, mon sommeil dogmatique et qui donna à mes recherches en philosophie spéculative une tout autre direction » (Prolégomènes à toute métaphysique future)

ما استفاده كانط من هيوم، هو أن العلم بالفعل يتجاوز التجربة، فيه بعد روحي غير مستمدّ من التجربة ويتجلّى في المبادئ والقوانين. ولكن هل هذا التجاوز هو علامة ايجابية أم هي سلبية كما نظر إليها هيوم؟ هل نلغي العلم المجردّ ونجعل  معرفتنا مجرّد تسجيل لإحساسات. هل نلجم العقل عن إصدار الأحكام كما تدعو لذلك الريبية؟  رغم وجاهة النقد الذي وجّهته الريبية للعقل وللنزعة التجريدية في العلم فإنّها لم تثني العقل عمّا يعتبره حقّه وهو إصدار الأحكام. هل نترك العقل يحكم كما يحلو له ونقول مع الريبية بأن ما يصدره هو مجرّد أوهام؟ الريبية اكتفت بإظهار جهلنا، لكن لم تفسّره ولم تعالجه.

هناك مشكل بالفعل. العلم ينطلق من المادّي لكن لا يقف عنده وينتهي إلى ما هو روحي (القوانين). هناك في العلم جانب تجريبي وجانب مجرّد. العلم يتجاوز التجربة إلى القانون. المشكل الذي يطرحه كانط: كيف أمكن أن يكون هناك تجريد؟ إلى أي شيء يعود ذلك؟ تعميم علاقة ما بين نوع من الظواهر لا يعود إلى التجربة. الواقع هو مجال المعطيات وليس مجال الأحكام. فهل في هذا الانتقال خطأ؟ وإن كان مشروعا، كيف نفسّره ونبرّره؟ كيف أمكن وجود العلم؟

ب- كيف أمكن وجود العلم؟

بهذا السؤال سعى كانط ليضع أسس المعرفة العلمية. ولا يعني هذا التأسيس إيجادها وإنّما تأسيسها نظريا أي فلسفيا بعد وجودها. لذلك يختلف السؤال الكانطي عن السؤال الديكارتي فلأنّ الديكارتية انطلقت من الشك فإنّ السؤال الذي تطرحه هو: هل العلم ممكن؟ من هنا كان مشروع ديكارت تأسيسي فعلي. وعندما تخلّص ديكارت من الشكّ أظهر دور العقل في بناء المعرفة بل هو نفسه كان عالما. أمّا السؤال الكانطي فهو كيف أمكن وجود العلم؟ فالصياغة الأولى تفترض أن لا وجود لعلم بينما تقرّ الثانية بأنّه واقعة قائمة بذاتها.

انطلق ديكارت يائسا من علوم عصره، واعتبر مهمّته تتمثّل في إنشاء العلم الحديث. لهذا كانت الديكارتية عقلانية في توسّع، في حين انطلق كانط مؤمنا بعلوم عصره، ومن ثمّ كان الشكّ فيها على غرار ما فعل هيوم لا مبرّر له. من هنا سعى كانط لفهم شروط إمكان علم موجود.

ثانيا: المذهب النقدي كتوفيق بين دور التجربة ودور العقل

1ـ نقد كانط للعقلانيين بإقراره ضرورة التجربة للعقل

يقول كانط "تبدأ كلّ معارفنا مع التجربة، ولا ريب في ذلك البتّة، لأنّ قدرتنا المعرفية لن تستيقظ إلى العمل إن لم يتمّ ذلك من خلال موضوعات تصدم حواسّنا".(وهبة ص45)

« Il n’est pas douteux que toutes nos connaissances ne commencent avec l’expérience, car par quoi notre faculté de connaître serait-elle éveillée [et appelée] à exercer, si elle ne l’était point par des objets qui frappent nos sens » (trad. Barni p57)

جميع معارفنا تبدأ مع التجربة ولكن قدرتنا على المعرفة أو ملكتنا الذهنية وإن كانت لا تظهر لنا قبل التجربة إلاّ أنّها لا توجد بوجودها. يجب أن نفرّق بين وجود العقل والوعي بوجوده. فوجوده سابق على التجربة ولكن وعيه بذاته لا يتمّ إلاّ بها. يجب أن تكون هناك تجربة حتّى يصل العقل إلى القول إنّه مستقّل على التجربة!

 نـقـد: يبدو هذا الأمر غريبا. فمن جهة يتحدّث كانط عن وجود مشروط للعقل (مشروط بالتجربة) ومن جهة أخرى عن وجود مستقلّ له (مستقلّ عن التجربة). إذا كانت كلّ معرفة تبدأ بالتجربة بما فيها معرفة العقل لنفسه، ألا يعني ذلك أن وجود العقل متأخّر عن وجود التجربة وبالتالي ألا يعود الفضل في وجود العقل للتجربة؟

إجابة كانط: التجربة توقظ العقل (تنبّهه، تنشّطه، تحرّكه) ولا توجده. فهي توقظه ليصاحبها لأنّها غير قادرة على أن توجد بمفردها. كان يمكن أن نقول إنّ التجربة توجد العقل لو كانت هناك تجربة قبل العقل، ولكن التجربة نفسها لا تمكن بدون عقل. فكانط ضدّ العقلانيين يعلن أن لا قيمة للعقل قبل التجربة. فلا وجود لمعرفة نظرية كما يقول أفلاطون، ولا وجود لأفكار فطرية كما يقول ديكارت.

أ-نقد كانط لديكارت:

خطأ ديكارت في نظر كانط يتمثّل في أن ديكارت وضع كلّ الوجود موضع شكّ وهكذا بقى فكرا وحيدا يتساءل حول واقعية الأشياء ويقين معارفنا. يقول كانط "تجربتنا الباطنية، التي لا شكّ فيها عند ديكارت، ليست هي نفسها ممكنة دون افتراض التجربة الخارجية"(وهبة ص156)

« Notre expérience interne indubitable pour Descartes n’est possible elle-même que sous la direction de l’expérience extérieure » (trad. Barni p249)

هذا يعنى أن الشيء الخارجي نفسه هو الذي يجعل الوعي ممكنا. بالنسبة لكانط لا توجد قطيعة بين الوعي المباشر والأشياء الخارجية. فطالما هناك وعي، هناك في نفس الوقت أشياء خارجية. بتعبير أدقّ لنا مباشرة الوعي بالأشياء الخارجية. هذا ما كان يتوجّب على ديكارت فهمه. بالنسبة لكانط من المستحيل أن نتحدّث عن وعي دون أن نشير في نفس الوقت إلى الأشياء الخارجية. هذا يعنى أن العالم الخارجي هو عنصر مؤسّس للوعي أو على الأقلّ يجعله ممكنا. وما كان لديكارت أن يفكّر ويشكّ وبالتالي يعي لولا التجربة. نقد كانط للكوجيتو الديكارتي يتأسّس على فكرة: كيف أمكن للوعي أن يوجد؟ كيف أمكن للكوجيتو أن يوجد؟ وإجابته واضحة: الفضل في ذلك يعود للتجربة وبالتالي للأشياء. في نظر كانط كان على ديكارت أن يطرح هذا السؤال، ولو كان طرحه لأخذت فلسفته وجهة أخرى. يؤاخذ كانط ديكارت على اعتقاده أن تفكيره هو الدليل على وجوده "أنا أفكّر إذا أنا موجود" وعلى وجود مختلف الأشياء. فما لم يأخذه ديكارت بعين الاعتبار هو أنّه لا يمكن تصوّر فكر بدون موضوع للتفكير لأنّه سيكون مجرّد فكر فارغ أجوف. ويترتّب على ذلك أنّه كان على ديكارت أن يقول "أنا أفكّر في شيء ما، أنا موجود"، بدل أن يدّعي أنّه موجود لأنّه يفكّر وإذا ما اعترف باستحالة التفكير بدون موضوع، تكون النتيجة أن الموضوع أو الأشياء التي نفكّر فيها موجودة قبل أن نفكّر فيها. يقول كانط قاصدا ديكارت: "إنّ التجربة الباطنية نفسها ليست ممكنة من ثمّ إلاّ بتوسّط ومن خلال التجربة الخارجية وحسب" (وهبة ص157).

 « « L’expérience interne elle-même n’est possible que médiatement et par le moyen de l’expérience externe » (trad. Barni p252)

ما نستخلصه من هذا النقد هو أن كانط يولي قيمة كبيرة للأساس الذي يجعل الوعي أو التعقّل ممكنا ألا وهو العالم الخارجي. ينطلق كانط من وعي خاضع، بينما ينطلق ديكارت من وعي حرّ ومتوحّد.

خلاصة القول، ديكارت انطلق من حدث وهو "أنا كائن، أنا موجود" (Je suis, j’existe) ولم يكن مضطرّا أن يبحث كيف كان أو كيف وُجِد؟ كانط كان أكثر تشدّدا من ديكارت فهو يرى –وهو المسكون بهاجس الربط بين العقل والتجربة- أنّه لا يمكن أن ننطلق من وعي جاهز أو مكتمل، بل من الضروري البحث في شروط إمكان هذا الوعي. هل يعني هذا التركيز على التجربة وعلى دور العالم الخارجي في الوعي والعقّل، أن كانط فيلسوف تجريبي؟

2ـ نقد كانط للتجريبيين بإقراره ضرورة العقل للتجربة

كيف  أثبت كانط ضرورة العقل للتجربة؟

أ-العامل الأوّل: التجربة لا تصنع التعقّل

هل يكفي وجود الظواهر فقط  لتحصيل المعرفة؟ أجاب كانط بالنفي وإجابته هي نقد للتجريبيين وللمادّيين الذين ينظرون للإنسان على أنّه جثّة تواجه الطبيعة وتتقبّل المعرفة. ولكن من المستحيل أن تحصل معرفة بالنظر للإنسان ككائن حيّ فقط. أليس الحيوان كائنا حيّا ومع ذلك لا معرفة له؟ إذا لحصول المعرفة لا بدّ من وجود –إلى جانب الظواهر الطبيعية- لا بدّ من وجود الإنسان ككائن عاقل لا ككائن حيّ فقط. إذا يجب أن نسلّم بأن الإنسان يمتلك فطريا قدرة على التعقّل ولكن لا معنى لها خارج التجربة.

ب-العامل الثاني: تحليل المعرفة العلمية نفسها يكشف عن ضرورة العقل

تصاغ المبادئ والقوانين في أشكال تظهر التعميم. فالقانون الذي يقول إن الأجسام المادية تسقط بفعل الجاذبية الأرضية، يتحدّث عن كلّ الأجسام المادية وليس عن أجسام معيّنة. هذا القانون لأنّه عام ومطلق، لا يرتبط بتجربة معيّنة وجزئية. فالألفاظ الواردة في أي قانون  تقول أكثر مما هو معطى لنا في التجربة. فنحن هنا نتجاوز التجربة. يُعتبر هيوم، أوّل فيلسوف تفطّن لهذا التجاوز. واعتبر أن هذا التجاوز غير مبرّر وهو خطأ لذلك سعى جاهدا لأن يبقي المعرفة في   حدود الإحساس أي معرفة جزئية حسّية مرتبطة بتجربة خاصّة معيّنة بدون تعميم أو تتجاوز. ذلك هو الشرط اللازم للموضوعية واليقين في اعتقاده. أُعجب كانط أيّما إعجاب بفكرة أن العلم يتجاوز التجربة ويقول أكثر مما معطى في التجربة. ولكن عكس هيوم لم يلغ هذا التجاوز ولم ينظر إليه على أنّه خطأ بل حاول أن يفهمه معتبرا أن هيوم تعرّض لمشكل هامّ ولكنّه لم يحلّه. ويكمن اكتشاف هيوم في أنّنا نعتقد أن ما هو عام (أي القانون) يستمدّ من التجربة وأن الطبيعة تطلعنا على السببيّة في حين أنّ ذلك وهم. فالطبيعة لا تعلّمنا  قانونا. كانط يساير هيوم في نفيه للسببيّة في الطبيعة ولكن يخالفه في ردّه العلم إلى إحساسات وفي إلجامه الذهن عن التعميم والتجاوز. فالمعرفة التي يسعى هيوم ليبقينا عندها لا يعتدّ بها. وهي ليست معرفة علمية كما يزعم. فعندما أقول "رأيت الشمس تبزغ" فأنا لم أعرف حيقيقة لأنّ هذه المعرفة ترتبط بالماضي وبالرؤية ولم تتجاوز نطاق الإحساس ولم تتحايث مع الزمن أي لم تصبح مطلقة. ولكن عندما أقول "الشمس ستبزغ غدا" أو "كلّما اكتسب الماء حرارة مساوية لمئة درجة تبخّر حتما"، فأنا أعرف حقيقة لأنّي وضعت قانونا. فلا معرفة إلاّ بالقوانين. فأنْ أعرفَ هو أن أحكم وهذا الحكم وإن كان مستمدّا من بعض التجارب إلاّ أنّه يحكم على تجارب قمتُ بها وتجارب لم أقم بها. فعندما أقول "كلّ  جسم يلقى في الفضاء يسقط حتما" أتساءل هل ألقيت كلّ الأجسام في الفضاء حتّى أصدر هذا الحكم؟ طبعا لا! إذا هناك قطيعة بين تجارب محدودة وحكم عام. وبعد كلّ ذلك نقول هناك انعكاس. أي انعكاس؟ هناك تجاوز وليس هناك انعكاسا. وهل ينعكس المحدود في العام؟ إذا ماذا نستنتج من هنا؟ نستنتج أنّنا عندما نفحص الحكم نجد:

أـ أن الحكم كحكم عام ليس انعكاسا للتجربة أو بتعبير آخر لا يستمدّ منها. هناك تجاوز ذهي. (وهذه الفكرة تبيّن ضرورة العقل للتجربة).

ب ـ هذا الحكم لا يكون بدون تجربة، إذ على أيّ شيء سأحكم (وهذه الفكرة تبيّن ضرورة التجربة للعقل).

هذا الانتقال من الخاصّ التجريبي إلى العام النظري، هو انتقال مشروع فبدونه لا قيام للعلم ولكن كيف نفهمه؟ إلى أي شيء نرجعه؟ ورغم أنّنا لا نعرف مصدر هذا التعميم، فها نحن وصلنا إلى نتيجة هامّة وهي أن المعرفة هي تأليف بين التجريبي والذهني، بين العيني والمجرّد.

ثالثا: تحليل ملكة المعرفة

قسّم كانط دراسته لملكة المعرفة إلى ثلاثة مباحث:

1)-الإستطيقا المتعالية (نظرية المعرفة الحسّية) (l’Esthétique transcendantale): وهي نظرية الحساسيّة (sensibilité) من حيث هي ملكة الحدوسات (intuitions) أو الانطباعات الحسّية.

2)-التحليلات المتعالية (l’Analytique transcendantale): وهي نظرية الذهن (l’entendement) التي محورها المفهوم (le concept).

3)-الديالكتيك المتعالي (La Dialectique transcendantale): وهي نظرية العقل (la raison) التي محورها هو الفكرة (l’idée).

1) ـ نظرية المعرفة الحسّية المتعالية: الصوّر القبلية للانطباعات الحسّية (أو الإدراك الحسّي)  Les formes apriori de la sensibilité

القدرة على الإدراك الحسّي بواسطة الحواس يسمّيها كانط الحدس (l’intuition). فالحدس يحدّد كملكة تمثّل لشيء واقعي معيّن. الحدس هو دائما مرتبط بموضوع ما. في الإدراك الحسّي عادة ما نركّز على الشيء الواقعي ولا نتفطّن إلى أن هناك عوامل أخرى ضرورية تتدخّل في هذا الإدراك. يقول كانط "لكن، على الرّغم من أن كلّ معرفتنا تبدأ مع التجربة، فإنّها مع ذلك لا تنبثق بأسرها من التجربة"(وهبة ص45)

 Mais si notre  connaissance débute avec l’expérience cela ne prouve pas qu’elle dérive toute de l’expérience » (trad. Barni p57)

 اتفق كانط مع التجريبيين في القول إن كلّ معرفة إنّما تبدأ مع التجربة ولكنّه أضاف أنّ التجربة الحسّية ليست شرطا كافيا للمعرفة. الشرط الثاني اللاّزم لذلك هو مبادئ ذهنية تنظّم معطيات التجربة. وهذه المبادئ سمّاها كانط قبلية (apriori).  والمقصود بقبلية هو أنّها سابقة عن التجربة وشرط لها. ما ينكره كانط هو أن تكون هناك تجربة خالصة تكون مجرّد تقبّل سلبي للانطباعات الحسّية. ما كان لهذه الانطباعات الحسّية أن تحصل لو لم يكن لذهننا ما به يتقبّل تلك الانطباعات. وهذا الكيان الماقبلي المستعدّ لتقبّل الانطباعات الحسّية يضمّ إطاريِن قبليين هما الزمان (Zeit) والمكان (Raume).إطارا الزمان والمكان هما جزءان من الهيكل العام لفكرنا. يمكن تشبيههما بالقوالب التي تصبّ فيه معطيات التجربة. كلّ تجربة تقع بالضرورة في زمان ومكان معيّنيْن. فهما بمثابة الإحداثيات الرياضية التي تضبط مكان النقطة في المسطح.

 ما هي البراهين على أن الزمان والمكان إطاران قبليان في الذهن وليسا معطييْن تجريبيين؟

أ- لا أستطيع أن أدرك الزمان والمكان حسّيا فلا وجود خارجي لهما فهما منفصلان عن الواقع المادّي ومن يدّعي أنّه لا يعرفهما لا يمكن أن نعرّفه بهما.

كلّ إنسان يعرف معنى المكان والزمان. ولكن كيف عرفهما؟ يقول كانط نحن نعرفهما لأنّهما مفهومان قبليان محايثان للذهن قبل التجربة. وللاقتناع بأن المكان ليس هو الأشياء والزمان ليس هو الأحداث وبالتالي لا يعرفان من التجربة، لنفترض أن شخصا ادّعى أنّه لا يعرف معنى المكان مثلا. كيف سنعرّفه له؟ سنقول له مثلا هو مساحة ممتدّة. ولكن سوف يجيب بأن هذه المساحة تعود إلى شيء ما: منزل، حقل، ملعب... وحتّى لو اعتبرنا هذا المكان هو الكرة الأرضية، فالكرة الأرضية هي شيء في نهاية المطاف. فأين هو المكان إذا؟ المكان يقول كانط ليس في الواقع لأنّه بكلّ بساطة هو مفهوم في الذهن. وهذا العجز في تعريف المكان للغير نجده أيضا في تعريف الزمان. فهما نُحاول لنعرّف الزمان سنجد أنفسنا نعرّف الأحداث. يقول كانط "المكان ليس أفهوما أمـبـيـريا استمدّ من تجارب خارجية"(وهبة ص61)

« L’espace n’est pas un concept empirique, dérivé » (trad. Barni p84)

ب- لا يستطيع الإنسان مهما حاول، أن ينكر وجود الزمان والمكان. هناك وعي قهري بهما.

إضافة إلى كلّ ما قلناه أستطيع أن أنزع بالتخيّل أو بالممارسة الفعلية شيئا ما من مكانه لكن لا أستطيع أن ألغي المكان. وقد ألغي ما بقى في المكان لكن لا ألغي المكان، بحيث مهما فعلت سيظلّ هناك مكان. ومثلما أن ذهني لا يستطيع أن يتصوّر الفراغ، لا يستطيع كذلك أن يتصوّر شيئا ما أو ركنا ما لا يوجد في مكان. وما قلناه عن بقاء المكان وراء الأشياء نقوله عن بقاء الزمان وراء الأحداث. فقد يخبرني شخص كذّاب بأخبار كاذبة أو مبالغ فيها فأنكر حصول ذلك، ولكن لا أستطيع أن أنكر أن في الفترة التي يتحدّث عنها لم يكن هناك زمان. عندما أستيقظ في الصباح من النوم لا أستطيع أن أنكر أن البارحة لم يكن هناك زمان. هناك وعي قهري بالزمان والمكان. فهما من مستلزمات الذهن.

 هذه القهرية التي يتمتّع بها المكان والزمان تدلّ على أن المكان ليس هو الأشياء والزمان ليس هو الأحداث. 

*ملاحظات:

*1- كلّ تجاربنا الخارجية تتنزّل في نفس الوقت في الإطار القبلي للزمان والإطار القبلي للمكان. على أنّه يجب أن نشير إلى أن تجربة الإنسان الباطنية أي تجربة حالاته الواعية (أفكار، خواطر، خيالات) تفلت من المكان ولكنّها تؤخذ على أنّها حادثة في الزمان.

*2- الأساس الذي عليه رفض هيوم السببيّة هو عينه الذي عليه يرفض كانط اعتبار الزمان والمكان معطيات تجريبية. هيوم يرفض السببيّة لأنّها حكم عام. في حين أن التجربة لا تمدّنا بأحكام عامّة بل بإحساسات فردية. وطالما أن السببيّة هي في حدّ ذاتها لا توجد في الطبيعة ولا نجرّبها، يرفض هيوم وجودها. هذا ما فعله كانط مع مفهومي الزمان والمكان. طالما أنّهما لا يوجدان في الطبيعة مثل القلم والكتاب والصخرة فلا يمكن الإقرار بوجودهما في الطبيعة. والإقرار بوجودهما يجب أن يكون على أساس آخر (في الذهن).

*3- طالما أن الزمان والمكان لا يوجدان في الطبيعة فلماذا لم يقف كانط منهما، الموقف الذي وقفه هيوم من السببيّة؟ لماذا لم ينف كانط وجودهما مثلما فعل هيوم مع السببيّة؟ لماذا هذا الإرجاع للذهن؟ كانط وجد نفسه في مأزق من جهة الزمان والمكان ليس حسيين ومن جهة ثانية الإدراك الحسّي يشهد بوجودهما، إذا لا يبقى إلاّ أن يكونا في الذهن. كانط وجد نفسه مضطرّا لهذا الاعتقاد. فهو لم يفحص الذهن فوجدهما ولكنّه فحص التجربة فلم يجدهما. وانعدام وجودهما في التجربة هو حجّة على وجودهما في الذهن عند كانط. فكانط لا يناقش مسألة وجود هذه المفاهيم القبلية فهي موجودة ومحايثة للمعرفة ولكن المشكل يكمن في مصدرها.

كانط يقف مع هيوم في أن هناك مفاهيم لا تستمدّ من التجربة ولكن يقف موقفا مخالفا لموقف هيوم من وجودها. هيوم ينفي وجودها بينما كانط يقرّ بوجودها. في نظر كانط هيوم أخطأ عندما حاول أن يلغي شيئا يصعب إلغاؤه. على هذا الأساس لا يبقى إلاّ أن تكون هذه المفاهيم قبلية في الذهن.

2)- المقولات القبلية للذهن وأنواع المعرفة العلمية  (الذهن=Verstand)

أ- المقولات القبلية

الذهن (L’entendement) هو نسق من المبادئ والمقولات (catégories) يسمّيها كانط أطرا ويعتبرها ماقبلية (apriori) وتعني هذه اللفظة أنّها توجد في الذهن، مستقلّة عن التجربة وشرط لها. أما من حيث الوظيفة فالذهن هو قدرة توحّد معطيات التجربة طبقا لقواعد. وهو يتميّز عن العقل (la raison) فالعقل يلبّي في الإنسان حاجته لمعرفة (هي بالأساس ميتافيزيقية) فيها توحيد من مستوى أعلى. محور الذهن هو المفهـــوم (Le concept) و"هو تمثّل عام أو تمثّل لما هو مشترك بين عدّة أشياء" (Kant, Logique, 1ere partie, ch1, §1) المفهوم هو تسمية تعيّن النقاط المشتركة لعدد معيّن من الأشياء، مثل مفهوم الطاولة، مفهوم الكتاب... يتضمّن هذا التعريف مشكلين ذيْ قيمة كبيرة! مشكل العلاقة بين العام والخاصّ ومشكل العلاقة بين التفكير والوجود.

كيف يتدخّل الذهن بمقولاته؟ إن التجربة عند كانط لا تتمثّل في التقبّل السلبي لما يجري في الواقع كما يدّعي ذلك التجريبيون، بل إن الذهن يخلق عن طريق مبادئه القبلية النظام والانسجام في الكون. وهكذا يكون كلّ ما نراه في الكون مترابطا، كالترابط بين الجاذبية والسقوط، والتسخين والغليان. وهكذا تخلّص كانط من الشكّ الذي انتهى إليه هيوم وضمن للمعرفة العلميّة قيمتها. مادامت كلّ العقول مركّبة نفس التركيب وتمتلك نفس المدركات الحسّية ونفس الصوّر والمقولات القبلية فإنّ معرفتها بالظواهر متّفقة لأنّ نفس الأسلوب يربطها وذلك ما جعل العلوم تنتهي إلى قوانين الطبيعة وتنظّم ظواهرها. إن القانون هو كذلك بصياغته الصورية المنطقية. فالقانون هو قالب صوري تتعدّل عليه المعطيات ولا يتعدّل هو بها. إن المعطيات التجريبية هي عبارة عن محتوى بدون نظام. أي كالمادّة غير المشكّلة أو كالصخرة غير المنحوتة أو كالخشب غير المصقول. يقول كانط "إن المقولات فارغة ما لم تستند إلى التجربة والتجربة عمياء ما لم تستند إلى المقولات". إن الشكل هو الذي يلحق المادّة ويكسبها معنى. فالذهن هو الذي ينظّم الظواهر وليس هذا التنظيم سوى بسط علاقات بينها فيجعل هذه الظواهر متضمّنة في الأخرى أو شاملة لها أو يجعلها مترتّبة عن الأخرى أو مولّدة لها أو يجعلها مساوية للأخرى أو مختلفة عنها. مثال حول السببيّة: عندما نضع الماء فوق النّار فإنّه يتبخّر ونقول تبعا لذلك، إنّ النّار هي علّة الغليان. ولكن في نظر كانط هذا الحكم خاطئ. فنحن نلاحظ حسّيا ظاهرة أولى الماء فوق النّار وظاهرة ثانية هي تبخّر الماء ولكن العلاقة السببيّة بينهما لا تلاحظ نحن لا ندرك بالحواس أن النّار هي علّة التبخّر. إذا من أين جاءت فكرة العلّية؟ لقد جاءت من الذهن. فلأنّ الذهن مزوّد بمبدأ السببيّة فإنّه يحوّل السابق إلى سبب واللاّحق إلى نتيجة. إنّ تدخّل العقل بمقولاته القبلية يجعل معرفة الطبيعة ترتقي من مستوى الإحساس إلى مستوى التجريد. فالذهن هو الذي يوفّر النظام والطبيعة توفّر المحتوى.

ما هي هذه المقولات أو الجهاز القبلي في الذهن؟ يحتوي الذهن على اثنا عشرة مقولة يسمّيها كانط بـ "الأطر القبلية" وهي في نظره محدودة وقبلية لا تستقى من التجربة أو الممارسة ومهمّة "الذهن" هي تنظيم الحدوسات التجريبية الآتية عن طريق الحساسية.

هذه المقولات القبلية للذهن صنّفها كانط في أربع مجموعات:

المجموعة الأولى: الكم  La Quantité

1. الوحدة  L’Unité

2. الكثـرة  La Pluralité

3. الكلّية  La Totalité

المجموعة الثانية: الكيف  La Quatité

4. الواقعية  La Réalité

5. النفي  La Négation

6. التحديد  La Limitation

المجموعة الثالثة: العلاقة  La Relation

7. الجوهر و العرض  Substance et Accident

8. السبب و النتيجة  Causalité et Effet

9. التأثير المتبادل   La Réciprocité

المجموعة الرابعة: الوضع  La Modalité

10. الإمكان و الاستحالة   Possibilité et Impossibilité

11. الوجود و اللاوجود Existence et non existence

12. الضرورة و العرض  Nécessité et Contingence

 

إذا أمكننا أن نتجاوز التجربة فذلك بفضل هذه المقولات التي يتكوّن منها الذهن إذ المعطى التجريبي لا يستطيع أن يؤسّس العملية الذهنية التي بها نعرف المعطى. هذه المقولات القبلية في الذهن هي من أجل المعرفة التجريدية، لا يستمدّها الذهن من التجربة وليست لها مراجع مادّية وهي تختلف عن المفاهيم المعطاة من التجرية مثل مفهوم: أسد، سرير. هذه المقولات تستخدم في الأحكام مثل:

الكلّية: كلّ إنسان مفكّر.

النفي: ليس كلّ موجود هو كائن حيّ.

الضرورة: إذا لم يتنفّس الإنسان يموت ضرورة.

الإمكان: يمكن أن يكون الطقس أجمل.

السببيّة مثل: إذا قمنا بتسخين الماء فإنّه يتبخّر.

موقف رونوفيي (Charles Renouvier 1815/1903) من المقولات: يعتبر رونوفيي أن مقولة العلاقة هي أساس كلّ المقولات الأخرى. كما يرى أن المقولات لا تظهر قيمتها إلاّ في علاقتها بالتجربة. وليس مهمّا اعتبار هذه المقولات قبلية أو بعدية، المهمّ هو دورها. كما أنه لا يرى أمرا مهمّا اعتبار كانط أن المقولات ثابتة لا تتغيّر. كما أنّه لا يرى ضرورة الإقرار بثبات المقولات في العقل. فمقولة الجوهر لم تعد لها نفس القيمة التي كانت لها قديما. فالقدامى كانوا يعتقدون أن لكلّ شيء جوهرا ثابتا وراء التغيّرات هو الصورة وهو ما يهمّ العقل لذلك اعتقدوا أن العقل يسعى دائما لمعرفة الجواهر. ولكن ما يهمّ العلوم اليوم هو العلاقة بين الظواهر لأنّها هي فقط ثابتة رغم تغيّر الأشكال والأمكنة لذلك يرفض رونوفيي اعتبار مقولة الجوهر من بين مقولات العقل. على نقيض مقولة الجوهر فإنّ مقولة السببيّة عرفت اهتماما كبيرا في القرن الحالي.

ولسائل أن يسأل ما فائدة التجربة إذا كان الذهن هو الذي ينظّم الظواهر عن طريق مقولاته؟ إنّ الظواهر الطبيعيّة في نظر الذهن منظّمة لا لأنّها منظّمة في ذاتها ولكن لأنّ نظر الذهن إليها مشوب بتنظيمها. طبعا ليس بالضرورة أن الرّبط الذي يقوم به الذهن هو عينه المحايث للظواهر. فظاهرة سقوط الأجسام مثلا فسّرها الذهن (ذهن أرسطو وأتباعه) بفعل رغبتها في العودة إلى وضعها الطبيعي.

الرغبة في العودة إلى المكان الطبيعي (السبب) ---- سقوط الأجسام (النتيجة)

إن العقل هنا قد قام بخلق نظام بين ظاهرتين ولكن أخطأ في تعيين السبب. قد يخطئ العقل في تعيين السبب ولكن لا يخطئ في خلق النظام ذلك أن هذه الظاهرة إن لم ترتبط بهذا السبب فيمكن أن ترتبط بغيره. إذا التجريب هو لغاية تعيين السبب الحقيقي وليس لإيجاد النظام. تلك هي فائدة التجربة.

إن مقولات الذهن هي الإطار الذي يشمل كلّ ما يمكن أن تقدّمه الطبيعة. إنّ الذهن مهيّأ مسبّقا لتقبّل ما تقدّه الطبيعة. فالطبيعة لا تحدث ثورة على الذهن ولا تزعزع أطره وكلّ ما تقدر على فعله هو أنّها يمكن أن تلغي محتوى وتضع مكانه آخر. وهكذا استبدل قانون سقوط الأجسام بقانون الجاذبية. إذا هناك أولوية للنظام على المضمون. ما يؤكّد أسبقية النظام على المضمون هو أن كلّ الظواهر في نظر الإنسان منظّمة. حتّى أنّه في أغلب الأحيان يسارع في بسط النظام عن جهل. وتصبح تلك الأحكام المتسرّعة عوائق ابستيمولوجية يصعب التخلّص منها، مثل الحكم على أن الشمس هي التي تدور حول الأرض. مصيبة من مصائب الإنسان الوجودية أن معرفة الطبيعة بموضوعية تتطلّب زمنا ولكن تركيبة الإنسان الذهنية تفرض عليه عقلنة الواقع. من هنا يقع في التسرّع في الحكم ولا يعايش الجهل.

 ولكن يمكن لمعترض أن يعترض على كانط بهذا السؤال: ألا يعني خطأ الذهن في تفسير بعض الظواهر أن هناك نظاما يسيّر ظواهر الطبيعة ويتجاوز الذهن؟ بتعبير آخر حتّى على افتراض أن الذهن ينظّم الظواهر هل يعني هذا أن الطبيعة بدون نظام؟ طالما أن هناك تطوّرا علميّا، أليس الأجدر أن نتحدّث عن الثبات في الطبيعة وليس في الذهن؟ الحلّ طبقا لمسلّمات كانط هو أن الذهن لا يفقد قيمته حتّى في الاكتشاف والتطوّر العلمي. فالاكتشاف الجديد شأنه شأن الاكتشافات السابقة لا تحصل إلا بتدخّل من الذهن. فالذهن وبفضل جهازه القبلي، يحلّل ويربط ويؤوّل وينفي... إن الذهن هو الذي يرفع من قيمة الحدث ويجعل منه اكتشافا.

هل يزيّف الذهن الظاهرة بتدخّله؟ إن السؤال الجدير بالطرح هو: هل يمكن للذهن أن يعرف بدون هذا "التزييف" على افتراض وجوده؟

1)إن شرط المعرفة هو تدخل الذهن وبدون ذلك لا تحصل المعرفة، وعلى هذا الأساس فلا يهمّ الإنسان إن كان يتوهّم أم لا لأنّه مضطرّ لاستغلال الإمكانيات المتاحة لديه وليس له خيار.

2)إن الإنسان لا يعرف ولا يمكنه أن يعرف هل أن تدخّله يزيّف أم يصيب، لأن تقييمه لمعرفته والحكم عليها يقتضي وجود معرفة أخرى غير تلك التي شكّلها بمقولاته ليقارن بها المعرفة التي بناها. ولكن هذه المعرفة غير ممكنة.

3)نظرا لهذه الشكوك والاحتمالات لم يدّع كانط أن ما نعرفه هو ما يجب أن نعرفه.

ب-ـ المعرفة البعدية والمعرفة القبلية

يقول كانط "سنفهم إذن، لاحقا، بمعارف قبلية لا تلك المستقلّة عن هذه التجربة أو تلك، بل المستقلّة بالتمام عن كلّ تجربة. وتضادّها المعارف الأمبيرية أو تلك التي هي ممكنة بعديا وحسب، أعني بالتجربة". (وهبة ص46).

  « Sous le nom de connaissances apriori, nous entendons donc désormais non pas celles qui sont indépendantes de telle ou telle expérience, mais celles qui ne dépendent absolument d’aucune expérience. A ces connaissances sont opposées les connaissances empiriques, ou celles qui ne sont possibles qu’a postériori, c'est-à-dire par le moyen de l’expérience » (trad. Barni p58) 

يقسّم كانط المعرفة إلى قسْميْن: معرفة تستمدّ من التجربة يسمّيها معرفة بعدية ومعرفة مستقلّة من حيث المبدأ عن التجربة يطلق عليها اسم معرفة قبلية وتنقسم هي بدورها إلى قسمين معرفة قبلية تحليلية ومعرفة قبلية تركيبية. المفهوم المفتاح للتفريق بين المعرفتين هو التجربة. واضح أن المعرفة البعدية هي التي تستمدّ من التجربة لكن لا تعني المعرفة القبلية أنّها معرفة فطرية تسكن الذهن وإنّما هي معرفة لا تستمدّ من التجربة ولكن تتشكّل بعد التجربة. مثال عندما أقول "هذه الصخرة ثقيلة" فهذه المعرفة بعدية لأنّها تتحدّث عن تجربة معيّنة وعن صخرة محدّدة. المعرفة البعدية هي بالضرورة معرفة إخبارية أي ترتبط بتجارب سابقة وكذلك معرفة وصفية تشير إلى شيء معيّن. ولكن عندما أقول "كلّ الأجسام ثقيلة" فهذه الجملة تفيد معرفة قبلية لأنّها غير مستقاة من أيّة تجربة ولا توجد ولو تجربة واحدة تبيّن ذلك فنحن أمام حكم عام العام لا يصدره إلا الذهن. صحيح أنّنا نعرف معنى الجسم ومعنى الثقل بعد التجربة، ولكن هذا الحكم في حدّ ذاته ليس انعكاسا للتجربة.

لإدراك خصائص المعرفتين البعدية والقبلية لا بدّ أن ننظر في أنواع الأحكام. الحكم هو قضية  تتركبّ من موضوع ورابطة ومحمول. (sujet/copule/prédicat)

ت-الأحكام التحليلية والأحكام التركيبية

*1)-الأحكام التحليلية: (jugements analytiques)

إذا كان المعنى المحمول على الموضوع داخلا في حدّ الموضوع كان الحكم تحليليا. فإذا قلت مثلا "كلّ محيط ممتدّ" فإن صفة الامتداد لا تضيف شيئا إلى معنى المحيط لأنّ الامتداد يدخل في حدّ المحيط ولا بوجد محيط غير ممتدّ. فالأحكام التحليلية بهذا المعنى سابقة على كلّ تجربة. فهي لا تخرج عن كونها أحكاما تفسيرية تشرح لنا معنى حدودها. وبذلك لا تزيدنا هذه الأحكام معرفة، مع كونها يقينية وصادقة على الدوام.

*2)-الأحكام التركيبية (jugements synthétiques)

هي الأحكام التي يكون فيها المحمول معبّرا عن صفة لا تدخل في حدّ الموضوع. فإذا قلنا مثلا "هذا الكرسي مريح" نكون قد أضفنا إلى مفهوم الكرسي مفهوما آخر لا يتضمّنه حدّ الكرسي إذ ليس كلّ كرسي مريح حتما. والتأليف بين الحدّيْن، حدّ الكرسي وحدّ الراحة، وإنّما يستند إلى التجربة إذ أنّنا لا نستطيع استخراج الحدّ الثاني من الأوّل. وهكذا من شأن الأحكام من هذا النوع أن تغني معارفنا بالأشياء. فهي التي تساعد على اكتساب العلم وعلى تطوّره. فالحكم التركيبي هو عبارة عن الجمع بين فكرتين أو مفهومين توحّد بينهما التجربة.

ث- أنواع الأحكام حسب أنواع المعارف

*1)-الفيزياء معرفة بعدية والأحكام فيها تركيبية بعدية

 في الفيزياء الأحكام تركيبية بعدية. الحكم التركيبي البعدي لا يكون إلاّ حول ظواهر فيزيائية ويسمّى تركيبي لأنّه يُلحق المحمول بالموضوع ويسمّى بعدي لأنّ الحكم لا يمكن بدون تجربة، طالما أنّه يرتبط بالظواهر المادّية.. مثال: هذه العلبة حمراء. فالمحمول حمراء غير مستمدّ من المفهوم العام للعلبة، فهو إضافة للعلبة إذا فهو حكم تركيبي. ومن جهة أخرى فإن معنى الاحمرار لا نعرفه إلا بعد التجربة إذا فهذا الحكم بعدي. نستنتج من هنا أن هذا الحكم تركيبي بعدي. كل القوانين الفيزيائية هي أحكام تركيبية بعدية أي غير ممكنة دون تعليمات التجربة.

*2)- المنطق معرفة قبلية والأحكام فيها تحليلية قبلية

هناك معرفة في الذهن يعتبرها كانط قبلية غير مستمدّة من التجربة لأنّها تستمدّ يقينها من ذاتها. فرغم أن الأحكام المنطقية تتألّف من موضوع ومحمول، إلاّ أنّها لا تستمدّ يقينها من الواقع والسبب هو أن المحمول ليس إضافة للموضوع وإنّما منطبع فيه. مثال: الأجسام ممتدّة. فهذا الحكم تحليلي قبلي، لأنّه لا يستمدّ من التجربة فهو تحليلي لأنّ المحمول متضمّن في الموضوع، فعندما نحلّل مفهوم الجسم نجد الامتداد منطبعا فيه. وهو قبلي لأنّ هذا الحكم نصدره من الذهن ولا نستمدّه من التجربة. مثال ثان: الدائرة مستديرة. هذا الحكم هو أيضا تحليلي قبلي لأنّ المحمول "مستديرة" جزء من تعريف الدائرة، أي عندما نحلّل مفهوم الدائرة نجد أن تعريفها يتمّ بالقول أنّها مستديرة.

*3)- الرياضيات معرفة قبلية والأحكام فيها تركيبية قبلية

عندما أقول إن 7+5=12، فإن مفهوم 12 غير متضمّن في تصوّري لـ 5 و7 ورمز الجمع (+) ولهذا فهي تركيبية لا تحليلية. ولكن من جهة ثانية، فإنّ النتيجة 12 ليست مستمدّة من التجربة بل ناتجة عن عملية ذهنية هي الجمع ولهذا فهي قبلية لا بعدية. مثال ثان: عندما أقول إن مجموع زوايا المثلث يساوي 180 درجة، فأنا أنسب للمثلّث خصائص توضّحه هي إضافة إليه. فالمحمول لا تدركه صلته بالموضوع بالبداهة. من هنا فهذه القضية تركيبية. من جهة أخرى فما أنسبه لست في حاجة للتجربة لكي أثبته (لست في حاجة لاستخدام المنقلة مثلا)، ويكفي لذلك الاستدلال الرّياضي أي التفكير فقط. لذا فهذا الحكم قبلي. فالمعادلات الرّياضية هي أحكام تركيبية قبلية. كلّ العمليّات الحسابيّة من جمع وطرح وضرب وقسمة هي تركيبية قبلية في معنى أن فيها اكتشاف واكتساب ولكن على مستوى ذهني فحسب.

 =نستخلص ممّا سبق أن المنطق هو معرفة قبلية وكذلك الرياضيات ولكن المنطق هو معرفة قبلية تحليلية بينما الرياضيات هي معرفة  قبلية تركيبية أما الفيزياء فهي معرفة بعدية تركيبية. ولسائل أن يسأل هل هناك تقارب بين المعرفة القبلية عند كانط والمعرفة الفطرية عند أفلاطون؟

ج- الفرق بين المعرفة القبلية عند كانط والمعرفة الفطرية عند أفلاطون

1)المعرفة الفطرية التي يقرّها أفلاطون قائمة الذات قبل التجربة وتمثّل محتوى معرفي وقع التعرّف عليه في عالم المثل. فهي مستقلّة عن الذهن وعن التجربة معا في حين أن المعرفة القبلية هي كلّ معرفة ليست مستمدّة من التجربة لأنّها أحكام عامّة في حين أن التجربة تمدّ بما هو خاصّ.

2)وإن اتفق كانط مع أفلاطون في قول الأوّل إن المقولات القبلية مستقلّة عن التجربة وقول الثاني إن المعرفة الفطرية مستقلّة كذلك عن التجربة فإن مضمون ما هو سابق عن التجربة عند كليهما مختلف. فهو عند أفلاطون أفكار بينما هو عند كانط مقولات وصوّر.

3)ثمّ إن كانط عكس أفلاطون تماما يفهم المعطيات القبلية لا كمعطى نفكّر فيه ولكن كمعطى نفكّر به أي كنشاط ذهني كتفكير. فليس هناك ذهن له معرفة قبلية وإنّما هناك ذهن له مقولات قبلية أما المعرفة القبلية فتأتي بعد التجربة رغم أنّها ليست انعكاسا لها.

 ولكن هل يمكن أن تشكّل المقولات باعتبارها غير مستمدّة من التجربة وسابقة عنها، معرفة فطرية خاصّة وأن المقولات القبلية هي أقرب لمعنى الفطري من المعرفة القبلية؟ مثال: الذهن في نظر كانط له مقولة السببيّة، ويعني بذلك القدرة على الرّبط بين الظواهر ولا يقصد أن الذهن له معرفة ووعي بالسببيّة. فليس هناك ذهن يعرف مقولاته قبل نشاط هذه المقولات. ولكن الذهن هو عين هذه المقولات والصوّر. فـ"امتلاك الذهن للمقولات القبلية" يعني إمكانية التفكير أي إمكانية التجريد والتعميم ولكن الذهن لا يمكنه أن يعرف أنّه يمكنه أن يعرف إلاّ بعد أن يعرف. يعني أن المحتوى القبلي لا يتمّ الوعي به إلاّ لاحقا أي بعد التجربة، أي يحصل اكتشافه كقبلي. ولكن من يكتشف هذا المحتوى؟ الذهن طبعا. وأين يوجد هذا المحتوى؟ في الذهن طبعا. إذا الذهن لا يكتشف نفسه إلاّ بعد التجربة. أي أن السببيّة مثلا لا يعي بها الذهن كجزء من تكوينه ووجوده إلاّ بوجود محتويات يربط بينها. فالتجربة لا تعلّمنا الرّبط وإنّما تمدّنا بما نربطه بغيره ولكن من جهة أخرى لا يعرف الذهن أنّه يمكنه أن يربط بين الظواهر إلاّ بعد أن يربط بينها. فالذهن يمتلك مقولات قبلية ولكن لا يعي بها إلاّ بعديّا.

ح- النتائج المترتّبة عن تحليل الذهــــن

*1) الفرق بين الظواهر والنومان

تدخّل الذهن في بناء المعرفة العلمية دفع كانط إلى أن يفترض إمكانية أن يكون الواقع كما نعرفه ليس هو الواقع كما هو في ذاته. فالظواهر هي الواقع كما يتجلّى للإنسان أي كما يبدو له في حدود قدرته المعرفية. يتجلّى من تسمية الشيء بالظاهرة أنّنا نأخذ ما يظهر لنا من الشيء على أنّه هو الشيء نفسه. هذه النتيجة توحي لنا بإمكانية أن يكون الشيء ليس هو ما يظهر لنا. الأمر الذي يدفعنا إلى أن نفترض إمكانية أن يكون الواقع المادّي الفعلي الحقيقي ليس هو كما يبدو لنا. إذا يمكن أن نسلّم بأن ما نعرفه من الواقع هو الظواهر أمّا الأشياء في ذاتها أو الواقع كما هو حقيقة، فإنّنا نجهله. الغريب في الأمر أنّنا لن نقدر أن نعرف هل أنّنا نعرف الواقع كما هو أم نعرفه كما يبدو لنا رغم وعينا بالمشكل. لكن هذا لا يمنع من الحكم على ما نعرفه بأنّه حقيقي. ليس أمام الإنسان إلاّ أن يستغلّ الإمكانيات المتاحة له.

*2) الموضوعية تتوقّف على العقل المنظِّم

إن نادت الريبية بمحدودية الذهن ولم تضبط حدوده، فإن النقدية(فلسفة كانط) حلّلت الذهن واكتشفت أطره وضبطت قدراته. لهذا السبب تعتبر فلسفة كانط نفسها "علم حدود العقل". وإن اكتفت الريبية بإظهار جهلنا وعيوب معرفتنا، فإن النقدية برهنت على ضرورة هذا الجهل وبالتالي موضوعية معرفتنا. فمعرفتنا التي هي في نفس الوقت موضوعية ومحدودة، منحدرة من الحدود المحايثة للذهن نفسه. ولهذا عندما تدعو النقدية ُ الذهن إلى الوقوف عند حدوده، فهي في الواقع تدعوه إلى الوقوف عند قدراته الخاصّة. وبهذا المعنى لا يحتوي مفهوم النقد عند كانط أي معنى تحقيري (نقص، سيطرة، خضوع...) ووقوف العالم عند حدود الذهن هو عين الموضوعية والعلمية وتجاوزها هو عين الذاتية.

3ـ العقل الخالص ونقد الميتافيزيقا

العقل المحض (Der Reinen Vernunft, La Raison pure) هو القدرة التي تهتمّ بالقضايا الميتافيزيقية الموجودة خارج نطاق التجربة وخارج إطاري الزمان والمكان. إذا كان محور الذهن هو المفهوم، فإن محور العقل هو الفكرة (Begriff). يقول كانط "الأفهوم الذي تشكّل من المقولات و الذي يتخطّى إمكان التجربة هو الفكرة أو الأفهوم العقلي"(وهبة ص197)

 « Un concept formé de notions et qui dépasse possibilité de l’expérience est l’idée, c'est-à-dire le concept rationnel » (trad. Barni p321)

هناك ثلاثة مفاهيم عقلية حسب كانط هي: الروح، العالم والإله. وإذا كان الذهن ينزّل مقولاته على الظواهر المادّية ويدخل النظام فيها، فإن العقل ينزّل هذه المقولات عيْنها في مجال ما وراء الطبيعة وينظر في ظواهر غير مادّية كالرّوح والإله. فعندما يؤكّد الميتافيزيقي أن الكون لا يمكن أن يوجد بذاته ولا بدّ له من سبب (الإله) فهو بذلك يفسد مفهوم السببيّة لأنّه يخرج من ميدان التجربة ويتخيّل عشوائيا شيئا ما خارج هذا العالم. العقل يريد أن يواصل مجهوده في الرّبط والتوحيد حتّى في ما يتجاوز التجربة الحسّية ولكنّه يظلّ يدور في الفراغ ولا يصنع إلاّ أشباحا.

في مجال العلم:

   التسخين-----(العقل يقوم بالعلاقة)-----< الغليان

-هناك ربط بين وجود و وجود.

-واقعيّا التسخين يسبق الغليان.

-معرفيا التسخين يسبق الغليان.

في مجال الميتافيزيقا:

العقل يفترض العدم موجودا ويربطه بالكــون

-ربط عقلي بين افتراض ووجود.

-واقعيا فإن الإله سبق الكون.

-معرفيا فإنّنا نعرف الكون قبل الإله.

من هنا عدّت التجربة بمثابة "اللجام" الذي يكبح العقل عن اختلاق ما ليس بموجود حقيقة. بهذا التلازم بين العقل والطبيعة يمكن أن ننجز معرفة يقينية. أمّا إذا تركنا العقل حرّا فإنّه لن ينجز إلاّ أوهام.

 سبب وصف مذهب كانط بالنقدي هو أن مذهبه هو نقد للميتافيزيقا وللعقل. في معنى أنّه بيّن أن مجال ما وراء الطبيعة هو مجال الخلط. كما بيّن انعدام قدرة العقل على الإتيان باليقين بمعزل عن الطبيعة. إن أوّل نقد للفلسفة من الدّاخل كان مع كانط قبل المذهب الوضعي والعلماني والإبستيمولوجيا. فمع كانط تعترف الفلسفة بقيمة المعرفة العلمية. لهذا يعدّ كانط الممهّد الأوّل للإبستيمولوجيا. لكن من جهة أخرى يزعم كانط أنّه حوّل الميتافيزيقا إلى علم. ولكن هذه الميتافيزيقا تقتصر على موضوع واحد هو العقل. أمّا مواضيع الميتافيزيقا القديمة (الرّوح أو الأنا، الإله، العالم، الحرّية) فلا يمكن أن تُعْرف، طالما أنّها أفكار محضة بدون حدوسات تجريبية. وهكذا لن تكون هناك حججا تبرهن على وجود الإله. إنّ الصراعات التاريخية في مجال الميتافيزيقا هي مجرّد أوهام ناتجة عن الاستعمال اللاشرعي لعقل جاهل بحدوده الخاصّة.

=بهذا التحليل لقضايا المنطق والرياضيات والفيزياء يعتبر كانط نفسه قد أنجز علما إلى جانب العلوم الأخرى. هذا العلم هو العلم الوحيد الجدير باسم الميتافيزيقا وهو علم الخصائص الماقبلية في العقل.

رابعا:تعليق على نظرية كانط في المعرفة

إقرار كانط بالصوّر القبلية للإدراك الحسّي والمقولات القبلية للذهن يكشف عن نزعة مثالية. والمثالية هي نزعة تميل لتقديم النظري على الواقعي أو الرّوحي على المادّي. فالوعي كقدرة روحية يعظّم من شأن نفسه ومنتجاته في شكل أفكار ومعارف وإيديولوجيات، وذلك في مقابل المادّي المحسوس. نلاحظ هذه النزعة المثالية عند عديد الفلاسفة. فديكارت يرجع الأفكار الفيزيائية والاستدلالية إلى مبادئ فطرية حدسية مستقلّة عن الواقع رغم أنّه في الحقيقة ما كان ليتوصّل إلى ما هو فطري إلاّ من خلال معرفته الواقعيّة. نلاحظ ذلك أيضا عند أفلاطون في نظرية المثل. فهو لاشكّ اكتشف المحسوس أوّلا ولكنّه يقلب الوضع ويعتبر أن المثل هي شرط وجود المحسوسات. وها هو كانط يسلك نفس الأسلوب، فبعد فحص علوم عصره انتهى إلى إقرار ما هو قبلي وجعل منه شرطا للتجربة. الواقع أن نزعة تقديس الرّوحي وتقديمه على ما هو مادّي، هي نزعة قديمة صاحبت الإنسان منذ وجوده. تبيّن لنا الأسطورة كيف أن الواقع المادّي يؤثر في الإنسان ككائن وجداني والإنسان يستنبط أرواحا ويجعل الواقع المادّي تحت سلطتها. ويبيّن لنا الدين كيف أن الواقع المادّي يؤثر في الإنسان ككائن وجداني والإنسان يستنبط الإله ويجعل الواقع المادّي تحت سلطته. أمّا المثالية فتبيّن لنا كيف أن الواقع المادّي يؤثر في الإنسان ككائن عاقل والإنسان يقدّس العقل ويجعل الواقع المادّي تحت سلطته.

نستخلص من هنا أن في كلّ فترة تاريخية يُعْتَقَدُ أن هناك كيانا روحيا مستقلاّ عن الطبيعة هو الذي يدركها ويفعل فيها. هذا الكيان هو الأرواح أو الإله أو العقل أو الروح. فالإنسان الحديث والمعاصر يقدّس العقل ويخرجه عن التاريخ ويسحبه على الإنسان سواء كان بدائيا أم معاصرا. فالعقل بما نسق من المبادئ القبلية لا يكون إلا ثابت الخصائص بحيث لا تثريه تجربة إذ هي تستحيل بدون ممارساته. هكذا يُعْتقدُ.

لكن تاريخ الإنسان يثبت أن المعرفة متطوّرة. والغريب أن تكون المعرفة متطوّرة في حين يُعتقد أن العقل ثابت الخصائص. أن يكون العقل ثابت الخصائص معناه أن العقل الذي نفكّر به نجن اليوم، العقل الذي صنع الطائرات والغوّاصات والأجهزة الإلكترونية... هو نفس العقل عند الإنسان البدائي الذي كان يسكن المغاور. يذكر لوسيان مالصون في كتابه "الأطفال المتوحّشون" (Lucien Malson Les enfants sauvages) أن حياة الطفل المتوحّش تكشف عن  غياب الرّوح المفكّرة أصلا. ويعتبر أن نشأة الطفل في المجتمع الإنساني هي الأساس في دخوله في الحضيرة الإنسانية. فالإنسان يصبح إنسانا ولا يولد إنسانا. إذا لم يستثمر المجتمع قدرة الطفل البيولوجية على الوعي والتفكير ولم ينشّطها فإنّها تندثر.

إذا ما هو الحلّ الممكن للمشكل الذي طرحه كانط وهو كيف نشأت المعرفة العلمية كمعرفة مجرّدة جديرة بالثقة، إذا لم نسلّم معه بوجود المقولات القبلية في الذهن الثابت الخصائص؟

يجب أن نسلّم قبل كلّ شيء أن الإنسان له قدرة بيولوجية على الوعي والتفكير، يتميّز بها عن بقية الكائنات الحيّة ولا تخلقها التجربة. وهذه القدرة حصلت له بعد تطوّر بيولوجي. ولا نعرف هل هذه القدرة هي نفسها، عند الإنسان المعاصر والإنسان البدائي. لكن الشيء الثابت هو أن الإنسان البدائي لم يكن محروما منها.

كيف انتقلنا من قدرة وعي بدائية محدودة إلى قدرة ذهنية فعّالة ومتطوّرة؟ وكيف انتقلنا من معرفة أسطورية إلى معرفة علمية متطوّرة؟ يجب أن نسلّم أن هناك تطوّرا في المعرفة كأثر إنساني وتطوّرا في ملكة التفكير نفسها كأداة. ومن ينكر ذلك عليه أن يجيب عن سؤال: لماذا لم ينتج الإنسان البدائي هذه الحضارة التي لنا اليوم إذا كان يتمتّع بنفس المؤهّلات الذهنية التي لنا اليوم؟ إن الاختلاف بين البدائي والمعاصر ليس اختلافا شكليا أو ثانويا بل هو اختلاف جوهري أساسي كالاختلاف بين الرّضيع والكهل. إذا كيف تشكّلت المعرفة العلمية رغم أن المنطلق هو قدرة بيولوجية محدودة ؟

هذه القدرة البيولوجية على الوعي والتفكير تمكّنت -نتيجة للتفاعل مع الطبيعة- من الوعي بذاتها ومن بناء معرفة محدودة. تلك المعرفة المحدودة يقع مدّها إلى الأجيال اللاحقة. وهذه الأجيال اللاحقة تطوّرها قليلا وتمدّها إلى الأجيال التي تلحقها. فالمعرفة الإنسانية هي بناء إنساني لا فردي. ولو نعزل اليوم طفلا عن المجتمع منذ ولادته ونتركه للحيوانات تربّيه لكان مثل الإنسان البدائي تماما ولن يستفيد من التاريخ رغم ولادته في عصرنا. إن العمر الذهني للإنسان المعاصر هو تاريخ البشرية.

إن حديثنا إلى حدّ الآن تعرّض إلى التطوّر في المعرفة فقط. فكيف الحديث عن ملكة التفكير نفسها؟ هل هي ثابتة أم متطوّرة؟ وإذا كانت متطوّرة فكيف تتطوّر؟

كلّ معرفة يكتسبها الذهن –أو ينتجها- تعدّل تركيبته من الدّاخل وتغيّر طريقة فهمه للأمور ونظرته للأشياء. تماما كالعلبة المعدنية التي نضع  فيها سائلا ملوّنا. فهي بمجرّد أن تحوي ذلك السائل حتّى تتلوّن به. نفس الشيء يحصل للذهن. فهو بمجرّد أن يكتسب معرفة لها جدّتها، حتّى يتجوهر بها فتتغيّر تركيبته من الدّاخل. هذا الذهن بهذه المعرفة الجديدة قادر على أن يكتشف معرفة يتجاوز بها ما اكسب وهكذا دواليك. إن مراحل تطوّر المعرفة هي كخطوات السير. كلّ خطوة لاحقة عن التي سبقتها وأساس التي تلحقها. قد تكون هناك سرعة في السير في مرحلة تاريخية أو تباطؤ في مرحلة أخرى، لكن يصعب أن يكون هناك قفز. فمن المستحيل أن يبتكر الإنسان البدائي أجهزة إعلامية مثلا. كما يستحيل على إنسان القرون الوسطى أن ينتج أسلحة عابرة للقارّات.

بيّنا إلى حدّ الآن، أن الذهن الفردي يكتسب معرفة فيتطوّر تفكيره، فيكتشف معرفة جديدة أو يعدّل المعرفة القديمة وهذا يعني أنّه يستحيل على شخص جاهل بميدان أن يطوّره. يمكن أن يكون نكبة على ذلك الميدان فيساهم في تقهقره أمّا أن يطوّره عن جهل فذلك أمر مستحيل.

لكن يظلّ هناك مشكل هامّ وخطير وهو ما هو العامل الذي يجعل الذهن يكتشف ويتجاوز المعرفة التي اكتسبها؟ قلنا إن المعرفة المكتسبة هي التي تطوّر تفكيره فيتمكّن من الاكتشاف. ولكن أيّ سرّ في هذه المعرفة يجعل التفكير يتغيّر بمجرّد اكتسابها؟

السرّ هو أن المعرفة المكتسبة ليست مجرّد معرفة. إنّها معرفة ومعقولية بداخلها. هناك منطق ونظام في المعرفة قد يكون صائبا وقد يكون خاطئا ولكن هناك نظام. هذا المنطق المحايث للمعرفة هو الذي يدفع للتفكير ويمكّن من التطوّر. مثال: عندما أعرف أن العنصر متضمّنا في المجموعة أستنتج أن المجموعة تشمل العنصر. ولكن ما الذي يجعل المعرفة يسودها النظام وفيها منطق محايث؟ إنّه: نظام الطبيعة. نظام الطبيعة هو اللفظة المفتاح لفهم أغلب جوانب الحياة الإنسانية: المعرفة والعقل والتاريخ والإنسان والتطوّر... نحن نعرف طبيعة في التفاعل بين ظواهرها نظام. كلّ مقولات الذهن التي تحدّث عنها كانط هي استنتاج للتفاعلات الممكنة بين الظواهر. فالسببيّة والإضافة والكثرة والعلاقة... كلّها يمكن تنزيلها بين الظواهر. ليست العمليّات الذهنية إلاّ ترجمة للتفاعل بين الظواهر. ما هو ممكن عقليا، كان ممكنا أوّلا وقبل كلّ شيء في الطبيعة. ما معنى أن نحكم على قول شخص ادّعى أنّه ركب صخرة وطار بها في الفضاء، بأن قوله غير معقول؟ هو غير معقول لأنّه غير واقعي. فالمعقول هو ما هو ممكن طبيعيا وغير المعقول هو ما هو مستحيل طبيعيا. العقل يحكم بما تحكم به الطبيعة. العقل وهو يفكّر في الظواهر الطبيعيّة، يفكّر فيها آخذا بعين الاعتبار تفاعلها. أقول وضعت الكتاب في المحفظة ولا أقول عكس ذلك، لأنّي واقعيا لا أستطيع أن أضع المحفظة في الكتاب.

لو قرأ كانط هذا التعليق لقال إنّ هذا التعليق تجنّب التعرّض لموضوع هام جاءت به نظريّته وهو كيف أمكن التجريد والتعميم والحال أن كلّ تجربة هي تجربة عينيّة فردية؟ أمكن التجريد بفعل تكرار حدوث الظاهرة في الواقع. تكرار حدوث الظاهرة هو الذي خلق العملية الذهنية "التعميم". الظاهرة الفردية لها تعليمها وتكرار الظاهرة لها تعليم آخر. عندما أرمي حجرة في الفضاء وتسقط أقول إن هذه الحجرة بالذات عندما أرميها تسقط. ولكن عندما أرمي أجساما مادّية أخرى وتسقط أستنتج من كلّ هذه العمليّات أنّني كلّما رميت بجسم مادّي فإنّه يسقط حتما. خطأ هيوم ومن بعده كانط  أنّهما يفصلان بين التجارب ويعتبران أن كلّ تجربة لها حكمها الخاص. ولو أدركا أهمّية تكرار الظاهرة، لأدركا أن التعميم يتعلّم من الطبيعة مثله مثل بقية العمليات الذهنية.

 

Tags

Enregistrer un commentaire

0Commentaires

Please Select Embedded Mode To show the Comment System.*

To Top