حسن الولهازي (تونس)
إذاعة النكد
خرجت يوما مع صديقين لي إلى الغابة. كان
يوما ربيعيا مشمسا. الطقس دافئ والنسيم عليل يهبّ على الجسم فينعشه ويداعب الوجه فيشعر
صاحبه بنشوة ولا نشوة العشّاق. ونحن نسلك طريق الغابة كنّا نستمتع بمناظر الطبيعة
الخلاّبة. نقطف زهرة من هنا وزهرة من هناك. ونتوقّف أحيانا لتأمّل بعض أعاجيب
الطبيعة. كان كلّ واحد منّا يتنفّس بملء رئتيه، يتنفّس بدون خوف وبدون تقتير، حتّى ينتفخ صدره وكأنها غنيمة وعليه أن يعبّأ
منها ما استطاع. قال أحمد وقد كان منتشيا: اغتنما الفرصة واستنشقا الهواء النقيّ قبل العودة إلى المدينة حيث دخان السيّارات
وأبخرة المصانع وروائح المزابل. ما إن أنهى أحمد كلامه حتّى صاح فيه سمير: كفّ عن
هذا الكلام لقد طيّرت متعتنا.
تقدّمنا في السير إلى أن وصلنا إلى فرجة بين
الأشجار، أعشابها قصيرة وأرضها مستوية. استلقينا على العشب ونظرنا إلى السّماء.
كانت السّماء زرقاء صافية لا تحوي سوى بعض الطيور التي تتراقص في الفضاء.
أحسست بإرتخاء وشعرت
بسخرية من مشاكلي. أيّة فوضى كنت فيها! وأيّ ضباب! وأيّ اضطراب! وأيّ ضغط! أشعر
الآن بطاقة جبّارة وبالقدرة على الخوض في أيّ موضوع بهدوء ورصانة وبُعْدِ نظر. أنا في
هذه اللحظة لا أتشوّق لمستقبل ولا أحنّ لماض. لا أريد أيّ شيء سوى النظر إلى
السّماء الزرقاء. فهذه اللّحظة لا تعادلها لحظة. إنّ الإنسان محتاج لينظّف روحه
مثلما ينظّف جسمه، وأفضلُ الأوقات لذلك هو فصل الرّبيع وأفضل الأماكن لذلك هو
الغابة. ونحن كذلك نتأمّل السماء ونتعقّب بنظرنا الطيور الراقصة في السّماء إذ
بصوت
المطرب محمّد عبدالوهّاب يردّد "عندما يأتي
المساء". والتفتنا إلى بعضنا البعض... إنّها مفاجأة من مفاجآت سمير. لقد حمل
معه المذياع دون أن يعلمنا بذلك. وهو راديو وآلة تسجيل في نفس الوقت. كانت مفاجأة
سارّة فعلا أن نسمع صوت هذا الفنّان في الغابة.
كانت روحي تتموّج مع كلّ عطفة في صوت محمّد عبدالوهّاب،
ورحت أغنّي معه في صمت. كلّ آهة من آهات الأغنية كانت تمسّد روحي وترفعني عاليا.
سألت سمير هل هذه الأغنية تبثّها الإذاعة أم هي مسجّلة عنده في شريط. فقال أنّها
من الإذاعة. فطلبت منه أن يسجّلها حتّى نعيد الإستماع إليها. فإستحسن الفكرة خاصّة
وأن معه شريط تسجيل. ضغط على زرّ التسجيل وعدنا لتأمّل السّماء الصافية.
ولم تمض لحظات حتّى قالت المذيعة: "أنتم
تستمعون إلى صوت الإذاعة الوطنية"، فعلّقت: "شكرا على هذه المعلومة
الثمينة ما كنّا نعرف ذلك". وواصل عبدالوهاب يشدو وكانت أرواحنا ترقص وتتموّج
مع صوته. وفجأة ينقطع صوت محمّد عبد الوهاب وتقول المذيعة: "أنتم تستمعون إلى
صوت الإذاعة الوطنية". واستشاط سمير غضبا: "اخرسي لعنة الله عليك أفسدت
التسجيل... شيء مقرف". وعاد عبد الوهاب يغنّي ولكن بين الفينة والأخرى، يقطع
صوته صوت المذيعة: "أنتم تستمعون إلى صوت الإذاعة الوطنية". شعرت
بالأسى. كيف نذيع أغنية لنرفه على الناس وفي نفس الوقت ننغّص عليهم السّماع. لماذا
نشوّش على المستمعين ونوتّر أعصابهم ونفسد عليهم لحظات الإستمتاع؟ ما من شك في
أنّه أسلوب عدائي وأرعن وسمير معه الحق في
الغضب الذي أبداه. بمجرّد أن انتهت الأغنية قالت المذيعة أن أحد المستمعين
اتّصل بالإذاعة وعبّر عن سخطه من هذه الومضات التي تذكّر بإسم إذاعة البثّ، ويرجو
من المذيعين أن يكفّوا عن ذلك. وأضافت المذيعة: "فنحن إذ نشكر هذا المستمع
على اهتمامه بإذاعتنا نقول له أن هذه الومضات متعمّدة لمنع تسجيلها". وصاح
سمير: "أيها الأوباش الأمر مقصود إذا!....عليكم اللعنة".
فردّ عليه أحمد:
"هدّئ من روعك....... المرأة معها
حقّ.
-نعم،ماذا تقول؟ عن أي
حق تتكلّم؟
-الإذاعة هي إذاعة
وليست أستديو تسجيل. من يريد أغنية مسجّلة عليه أن يقتني شريطا من الباعة.
-أنا أريد أن أفهم أيّ
ضرر سيلحق الإذاعة إذا كفّت عن هذه التدخّلات العشوائية؟ لماذا تنغّص علينا هذه
المتعة؟ هل الإذاعة أداة ترفيه أم تعكير مزاج؟
-هي أداة تثقيف
وترفيه.....
-كفّ عن هذا الهراء...
عن أي ترفيه تتحدّث... اشعر أن ضغط دمي قد
ارتفع...
- يا سمير هناك شركات
تسجيل، تسّجل من الإذاعة وتنسخ منها آلاف الأشرطة وتبيعها بدون امتلاك حق إنتاجها
وبيعها.
فتدخّلت لتهدئة الوضع فقلت:"يا أحمد، سمير
معه الحق. فليس كلّ مستمع يريد أن يسجّل. فهل نعاقب كلّ المستمعين لأنّ هناك من
يريد أن يسجّل ويبيع؟ فمن حقّ أي مستمع أن يستمتع بالأغنية ولن يكون هناك استمتاع
إلاّ إذا تواصلت الأغنية في تسلسل وصفاء. وعلى العموم إن كان هناك مشكل فيجب أن
يعالج بطريقة أخرى كأن يوضع هذا البلاغ مرّة واحدة فقط في منتصف الأغنية".
أطفأ سمير المذياع
وتمدّد على العشب وقد كان متّكئا على مرفقه.خيّم الصمت على المكان بإستثناء زقزقة
عصافير الحسّون المنتشرة في المكان...