39. الفيزياء المعاصرة وأزمة الحتمية في الفيزياء الكلاسيكية

ECRITS
0
                                                                            

                                حسن الولهازي (تونس)

الفيزياء المعاصرة وأزمة الحتمية في الفيزياء الكلاسيكية

التمهيد

إن الأزمة التي سبّبتها الفيزياء الحديثة للفيزياء الكلاسيكية لا تتعلّق بالموضوع كالقول إن المواضيع التي انتهت إليها الفيزياء الكلاسيكية كالإلكترون والبروتون والنوترون والبوزيترون لم تعرفها الفيزياء الكلاسيكية ولكن هذا النقد غير مقبول لأنّ المواضيع العلمية تستحدث باستمرار منذ القديم. كما أن هذه الأزمة لا تتعلّق بالمنهج، فالقول إن الفيزياء الكلاسيكية تعتمد على التجربة بينما الفيزياء الكلاسيكية تعتمد على الرّياضيّات في البحث والتكهّن هو أيضا كلام لا يستقيم، لأنّ استخدام الرّياضيّات يكون حسب طبيعة الموضوع لا يقصد لذاته. إن الأزمة التي أحدثتها الفيزياء الحديثة للفيزياء الكلاسيكية تتعلّق بالأسس التي انبنى عليها هذا العلم وأهمّ أساس هو الحتمية.

الإشكالية

فما هي المعارف التي انتهت إليها الفيزياء الحديثة وبالأساس نظرية الكوانطم والتي بيّنت محدودية هذا المبدأ؟

التحليل

الفرق بين الحتمية والسببية (أو العلّية) والجبرية

إن الحديث عن الحتميةle déterminisme   يستدعي تمييزها عن مفهومين قريبين منها ومختلفين عنها هما مفهوم السببيّة la causalité ومفهوم الجبرية la fatalité.

السببية هي القول إن كلّ ظاهرة لها سبب أو علّة تسبقها وتؤدّي إليها. وبهذا المعنى تتناقض السببيّة (أو العلّية) مع الصدفة le hasard وهي القول إن الحوادث تحدث بلا علّة ولا تفسير لها ولا يمكن التنبّؤ بحدوثها. وقد تصل الصدفة بهذا المعنى إلى العبث أو اللاّقانون.

أمّا الحتمية فهي تقرّ مثل السببّية بأن لكلّ حادثة علّة ولكنّها تضيف إليها مسألة التكرار، إذ تقول في صورة ما تكرّرت الأسباب فإنّ الحوادث (أي النتائج) تحدث حتما كقولنا مثلا إنّنا عندما نرمي حجرا في الفضاء لابدّ أن يسقط حتما أو كلّما شرب الإنسان كمّية كبيرة من السمّ إلاّ ومات حتما. نحن هنا في مجال الحتميّة. لكن عندما نقول إن نجاح تلاميذ هذه المدرسة يعود إلى حزم الإطار التربوي، فنحن هنا في إطار السببيّة لا الحتميّة، إذ أن حزم الإطار التربوي لا يؤدّي حتما ودائما إلى النجاح الباهر للتلاميذ. فكلّ حتميّة هي بالضرورة سببيّة لكن ليست كلّ سببيّة حتميّة.

أمّا الجبرية فتقرّ أن كلّ ما يحدث في الواقع هو تجلّ من تجلّيات الإرادة الإلهية. فإرادة الإله هي السبب في كلّ ما يحدث. وهذا يعني أن علّة الحوادث في الطبيعة خارجة عن الطبيعة لأنّها تسيّر من السّماء. وباعتبار أن الإله حرّ فلا نستطيع أن نتكهّن بما سيحدث. يتّضح ممّا سبق أن الجبرية مجالها الدين والحتميّة مجالها العلوم الطبيعة والسببيّة مجالها العلوم الإنسانية.

مبدأ الحتميّة: فلسفة أم علم؟

إن القول بالحتميّة هو موقف ميتافزيقي أو إعتقاد أو مصادرة أوّلية وليس نظرية علمية أو قانونا عليما وذلك للأسباب التالية:

هو إعتقاد سائد منذ القديم قبل حتّى أن تنشأ العلوم الحديثة والمعاصرة.

ليس هناك ظواهر معيّنة يصدر عنها هذا القانون أو ينطبق عليها هي بالذات حتّى نقول أنه قانون متأتّي تجريب.

يبدو هذا المبدأ ضرورة عقلية وحاجة نفسية ولزومه للعقل ألحّ من لزومه للطبيعة ولذلك أرجعه كانط للعقل واعتبره مقولة قبلية تسبق التجربة. فحتّى على افتراض أن هناك عبثا في الطبيعة أو معجزات فعقل الإنسان لا يقبل ذلك.

هذه الضرورة هي التي جعلت هذا المبدأ السببية موضع احترام في تاريخ الفلسفة والعلوم. اعتبره لايبنيتس مبدأ عقليا وكانط مقولة قبلية ونيوتن مبدأ مطلقا لا ينشأ العلم بدونه. فما هي الظواهر والمعارف التي انتهت إليها نظرية الكوانطم والتي عدّها الإبستيمولوجيون نقدا لذلك المبدأ الذي حظي بالتبجيل في المعرفة؟

الظواهر الكوانطية وأزمة الحتميّة

قبل أن نخوض في المسائل التي انتهى إليها علماء نظرية الكوانطم والتي شكّلت نقدا للحتمية يبدو من الضروري أن نبيّن السؤال الذي كان بمثابة المنطلق لهذه النظرية خاصّة وأن البحوث التي تلت ترتّبت عن ذلك البحث. وهذا السؤال هو:

لماذا تصدر الأجسام الساخنة تلك الألوان التي تصدرها؟ كيف تصبح الطاقة الحرارية طاقة ضوئية؟  في 14/12/1900 قدّم ماكس بلانك أمام الجمعية الفيزيائية الألمانية فكرة غريبة أصبحت في ما بعد ميلاد نظرية الكم. شرح بلانك في عمليّات رياضيّة لماذا تتحوّل هذه الطاقة الحرارية إلى أمواج ضوئية ترى بالعين: أبيض، وأزرق،... كما يلاحظ ذلك عندما  نقوم بتسخين قطعة معدنية؟ ماذا كان اكتشاف بلانك؟ لقد وجد بلانك أن المادّة تمتصّ الطاقة الحرارية وتصدر طاقة ضوئية كلّ ذلك بشكل متقطّع. إن الطاقة الحرارية التي نمدّها للمادّة المتوهّجة لا تنجح في إثارة أمواج ضوئية عالية التردّد (وترى بالعين) إلاّ إذا بلغت حرارتها درجة عالية جدّا. وهذا يعني أن الأمواج ذات التردد العالي تكلّف طاقة عالية جدّا.

e=hf وهي معادلة بلانك هي بداية ثورة نظرية الكوانطم. مثلما كانت f=mv هي بداية ثورة الفيزياء الكلاسيكية.التردّد العالي يعني طاقة عالية وعلى هذا الأساس لا يكون الضوء الصادر مرئيا إلا إذا كانت طاقة التسخين عالية بما يكفي لرؤيته. كلّما ارتفعت حرارة المادّة كلّما تغيرّت الأمواج الضوئية المنبعثة منها وتغيّرت الألوان. كلّ هذا معروف لكن عبقرية بلانك تتمثّل في أنّه فسّر لماذا تتغيّر الألوان والسبب في ذلك هو أن المادّة الساخنة ترسل موجات ضوئية بشكل متقطّع وبذلك تتغيّر الألوان لأنّ الكمّ الذي تدفعه ليس هو نفسه دائما.

عن بحوث ماكس بلانك تعمّق العلماء في علم الذرّة وأفضت بحوثهم إلى نتائج حدّت من سلطة للحتمية. من هذه البحوث:

النشاط الإشعاعي: هناك مواد إشعاعية وهي ذرّات لها خاصّية النشاط الإشعاعي، وهي خاصّية تستطيع الذرّة بمقتضاها أن تقذف بإشعاعات مختلفة الأنواع مثل أشعّة ألف وأشعّة بيتا وأشعّة ﭭـاما. وحين تقذف الذرّة هذه الإشعاعات تقذفها بطريقة تلقائية دون تفسير ودون تنبّؤ بما سوف يحدث للذرّة في اللحظة التالية.

مبدأ اللاّيقين عند هايزنبرﭪ: ومن نتائجه أنّنا إذا عزلنا إلكترونا واحدا عن بقيّة مجموعة الإلكترونات في مجال واحد وحدّدنا تحديدا دقيقا سرعة حركته واتجاهها، فلن نستطيع تحديد موضعه المكاني بنفس الدقّة ولن نستطيع أن نتنبّأ بموضعه وحركاته في أيّ لحظة أخرى من المستقبل وذلك يتناقض مع مبدأ الحتميّة.

التفسير الإحصائي بدل التفسير السببي

والحالة هذه هل يمكن أن نقول أن علماء الكوانطم أسّسوا قوانين علمية جديرة بهذا الاسم بعيدا عن الحتمية؟

السمة الأساسية للقانون العلمي هي التفسير. والتفسير العلمي أنواع فقد يكون التفسير سببيّا كما هو الحال في الفيزياء الكلاسيكية وقد يكون إحصائيا كما هو الحال في نظرية الكوانطم. نشأ  تصوّر القانون الإحصائي عن تصوّر الاحتمال. نشأت نظرية الاحتمال كفرع من فروع الرّياضيات منذ القرن السابع عشر بفضل باسكال Pascal ثمّ توالت أبحاث الرّياضيين في تصوّر الاحتمال ونشأ عنه تصوّر الصدفة. وليست الصدفة هنا مرادفة للعبث واللاقانون وإنّما هي وسط بين الضرورة والاستحالة. وحُدّد احتمال وقوع الحوادث تحديدا رياضيّا بحتا. ونشأت نظريات مختلفة في حساب الاحتمالات. وتدخّل الإحصاء الرّياضي في تلك النظريّات لصياغة تلك القوانين الإحصائية صياغة عددية. وقد قامت كثير من النظريّات العلمية في العلوم الطبيعية على قوانين إحصائية مثل قانون بين ضغط الغاز وحجمه والنظرية الحركية في الغازات وقوانين الديناميكا الحرارية وقوانين بلانك في انبعاث الطاقة والإشعاع.

النقــــــــــــــد

هل أن كلّ الظواهر الكوانطية تخضع للإحصاء لا للتفسير السّببي؟ الواقع أن هناك ظواهر ينسحب عليها قانون الحتمية.

الظواهر الكوانطية التي ينسحب عليها مبدأ الحتميّة

ومن جهة أخرى أمكن اكتشاف مجالات يفعل فيها مبدأ السببيّة فعله:

حالة اكتساب أو فقدان الإلكترون للطاقة: حين يوسّع الإلكترون مداره حول النواة أو يضيق منه فإن ذلك راجع إلى اكتساب الإلكترون طاقة من خارج الذرّة فتزيد طاقته فيوسّع من مداره، ويرجع تضييق مدار لإلكترون إلى فقدانه بعض الطاقة التي كانت فيه.

وجود علاقة سببيّة بين مجالين من الحوادث: إذا كنّا لا نجد علاقات سببيّة بين حادثتين جزئيتين (بين الكترونين أو بين ذرّتين)، فإنّنا نجد علاقات سببيّة في عالم الذرّة بين مجالين أو بين نسقين من الحوادث. فما يحدث لنسق من الإلكترونات يمكننا تفسيره بواقعة أخرى تحدث لنسق آخر من الإلكترونات، وإذا فالعلاقة السببيّة قد تتمّ بين مجالين أو نسقين أو مجموعتين من الحوادث.

الخاتمة

رغم هذا النقد لمبدأ الحتميّة يعترف عديد العلماء المعاصرين بقيمة هذا المبدأ كمصادرة أوّلية ولا يتخلّون عنه إلاّ عند الضرورة. يقول ماكس بلانك "يمكن القول إن قانون العلّية مجرّد فرضية، لكنّه ليس فرضية كسائر الفرضيات، وإنّنا هو فرضيّة أساسيّة ومصادرة ضرورية ويعتبر قاعدة لكلّ الفرضيات العلمية". كتب اينشتاين في إحدى رسائله  إلى ماكس بورن يقول له فيها إنّنا نبدأ دائما ببعض العقائد الأساسيّة في البحث العلمي نسلّم بها ولا نبرهن عليها ومن هذه العقائد العلّية والموضوعيّة. لكن كما رأينا لا يكتفي العلماء بتقريرهم أن الحتمية هي مبدأ قبلي ومصادرة أساسية في البحث العلمي، بل يحاولون البحث أيضا عن تطبيقها التجريبي. لا يتعسّف العلماء في هذا التطبيق وإنّما يثبتون العلّية حين يجدونها حقّا في تجاربهم ويرفضون التفسير السببي للظواهر حين لا يجدونها.

 


Tags

Enregistrer un commentaire

0Commentaires

Please Select Embedded Mode To show the Comment System.*

To Top