6. نقد ملكة الحكم لكانط

ECRITS
0
                                   حسن الولهازي (تونس)

                     قراءة في الفقرات التسعة الأولى من كتاب كانط  "نقد ملكة الحكم"
                                      ترجمة غانم هنــــا  نشر المنظّمة العربية للترجمة

§1: حكم الذوق جمالي وليس معرفيا

المعرفة هي تلك الأحكام التي يتوصّل إليها الذهن بعد دراسته لموضوع ما. وبالنظر لهذه المعرفة يكون بمقدور الذهن أن يحاكم كلّ الأحكام حول ذلك الموضوع. فما كان ينطبق على الموضوع عدّ صائبا وما كان لا ينطبق عليه عدّ خاطئا. لكن هل أن كلّ الأحكام حول المواضيع هي فقط معرفية؟ هناك إلى جانب ذلك، ما يسمّه كانط: أحكام الذوق. الذوق هو ملكة في الإنسان تقابل الذهن في مجال المعرفة. مهمّة الذوق هي تحديد مقدار الجمال في موضوع ما. ولذلك نقول إن الذوق يصدر أحكاما جمالية. أي أنّه يقول عن مشهد ما إنّه جميل أو متوسّط الجمال أو قبيح. ما هو الفرق بين الذهن والذوق في هذا المجال؟

الذهن مقيّد بالموضوع بل هو في خدمة الموضوع فهو ينقل خصائص الموضوع كما هي (كأن يقول إن الماء يتكوّن من هيدروجين وأكسيجين لأن هذه هي تركيبته بالفعل). بينما الذوق حرّ في إصدار أحكامه الجمالية. فعندما يقول إن هذا المشهد جميل. فإنّ ذلك يكون بالرّجوع إلى الذات التي تصدر الأحكام لا إلى المشهد في حدّ ذاته. ولذلك فالذوق حرّ والذهن مقيّد. لسائل أن يسأل ما معنى أن يحكم الذوق على شيء ما بأنّه جميل وعلى آخر بأنّه قبيح؟ ما هو حكم الذوق؟ حكم الذوق ليس حكما منطقيا يرتبط بالمعرفة ولكنّه حكم جمالي يرتبط بالذوق وبالتالي بالذات التي تتذوّق. الحكم المنطقي هو حكم موضوعي. وتدخّل الذات فيه محدودا لأنّها تتدخّل فيه فقط كحقل من المقولات الفارغة. بالمقابل فإن دور الذات في الحكم الجمالي أساسي، فهي التي تشرّع الجمال أو القبح ويكون دور الموضوع في هذه الحالة محدودا. فهو يعطي للذوق المناسبة لإجراء الحكم. لماذا هذا التمييز بين حكم منطقي وحكم جمالي؟ في الحكم المنطقي يبدو الذهن الإنساني كآلة فوتغرافية تسجّل صورة الموضوع من دون تدخّل يغيّر نوعية الموضوع أو كمّيته. بالمقابل فإن الحكم الجمالي يبني صورة ذاتية للموضوع حسب مزاج الشخص وذوقه.

 

§2: الرضا الذي يحدّد حكم الذوق نزيه خال من المصلحة

إن رضا الشخص عن موضوع ما أو استلطافه له هو الذي يجعله يراه جميلا وعكس ذلك عندما لا يجد هوى في نفسه يراه قبيحا. لكن هل كلّ رضا هو منطلق لإحكام جمالية؟ لا! لأنّ هناك نوعين من الرضا: رضا مصلحي ورضا نزيه.

*الرضا المصلحي: هو الرّضا عن موضوع ما لغايات غير فنّية، غير ذوقية، غير ذوقية كأن يرضى شاب عن فتاة ويعجب بها ويرغب في الزّواج منها لا لشيء إلاّ لأنّها ابنة الوزير.

*الرضا النزيه: هو الإعجاب بالشيء والرّضا عنه لأنّه بالفعل يثير إعجابنا بقطع النظر عن مصلحتنا. نرضى عنه لأنّنا نراه جميلا في حدّ ذاته. ولسائل أن يسأل: هل أن الموضوع الذي نحكم

عليه بأنّه جميل، هل هو جميل فعلا أم نحن الذين نراه كذلك؟ وإذا كان جميلا فعلا ألا تصبح الأحكام الذوقية مماثلة للأحكام العلمية باعتبارها مستخلصة من الظواهر ؟ لأنّ الذوق ذاتي والّرضا ذاتي فإن الأحكام الجمالية هي ذاتية. كلّ موضوع نعتبره جميلا هو كذلك في نظرنا فحسب ولا يعني أنّه جميل بالنسبة لغيرنا.  فالاختلاف في الأذواق كالاختلاف بين أشخاص يلبسون نظّارات شمسية مختلفة، وكلّ راءٍ يرى الأشياء بلون عدسات نظّارته. وفي هذا الإطار لا معنى أن نقول أن زيدا أصاب وعمرو أخطأ. وهذا يعني أن الجمال ليس صفة تستمدّ من المنظر بل كلون تتحكّم فيه. وهذا هو معنى قول كانط "ما يهمّ ليقال عن الشيء إنه جميل وإثبات أن عندي ذوقا، هو ما أكتشفه في نفسي بحسب هذا التمثّل، وليس ما به أعتمد على وجود الشيء" (ص103س15). والمقصود بذلك هو أنني لكي أقول عن موضوع ما إنّه جميل وأن أبيّن أنّني كنت ذوّاقا، فإنّني في الواقع لا أعتمد في حكمي على الشيء ولا أصرّح بما فيه من جمال وإنّما بما أضفيه عليه من جمال. يمكن تلخيص هذه الفقرة في فكرتين:

1- حكم الذوق (أي الحكم بالجمال أو القبح) هو حكم نزيه خال من المصلحة.

2- ما سنحكم به على الموضوع ليس مستمد ّا من الموضوع بل هو مضفى من الذات الرائية.

هاتان الفكرتان تطرحان إشكالا عويصا:

ذكر كانط في الفقرة الأولى أن حكم الذوق لا يتعلّق لا بالذهن ولا بالمعرفة ولا بالشيء، وأضاف في بداية الفقرة الثانية أنّه لا يتعلّق بالمصلحة. وكلّ ذلك من أجل أن يربط حكم الذوق بالذات فقط. وقد يذهب في ظنّ من يطلّع على ذلك أن كانط يقصد أن حكم الذوق تتحكّم فيه ميول الذات وأهوائها ورغباتها ومصالحها وهو ما يميّز الذات عن غيرها من الذوات، فإذا كانط يفاجئنا بالقول إن حكم الذوق –وإن كان ذاتيا- إلاّ أنّه يجب أن يكون منزّها عن المصالح الذّاتية والأهواء. فكأنّه في نفس الوقت ذاتي وليس ذاتيا أو أن حكم الذوق هو المعبّر عن الجانب المطلق أو اللاّذاتي من الذات.

ملاحظة: في آخر السطر 20ص103 كانط يخلط في التعبير لحدّ لا يطاق يقول "يجب عدم الاهتمام إطلاقا بوجود الشيء" وهو يقصد أن حكم الذوق لا يهتمّ بخصائص الشيء وتركيبته مثل الفيزيائي. ولكن لا يقول ذلك صراحة. فهو في كلّ الفقرة إذا قال "وجود الشيء" فهو يقصد "خصائص الشيء" في حين أن هناك فرقا بينهما. ثمّ ما معنى إن "القاضي في أمور الذوق يجب أن لا يهتمّ بوجود الشيء" (ص103س20) كلام كالظلام.

 

§3: الرّضا بالملائم ليس رضا نزيها لأنّه مرتبط بمصلحة.

أشكال الرّضا متعدّدة ومختلفة ولكن لأنّها كلّها تصبّ في الإحساس بالمتعة، تتولّد صعوبة في التفريق بينها.

رأينا في الفقرة الثانية أن الرّضا الذي يعين حكم الذوق هو رضا نزيه. فهل أن الّرضا بالملائم  l’agréable هو رضا نزيه أم مرتبط بمصلحة ولا علاقة له بالذوق؟ الرضا بالملائم مرتبط بمصلحة والسبب هو التالي يقول كانط "لسنا نقول عن الملائم إنّه يُمْتِعُ وهذا ليس مجّرد استحسان نقدّمه له بل ميل ينتج عن ذلك" (ص106س2). إن مصيبة الّرضا بالملائم هي أنّه يلبّي متعة حسّية تميل إليها الذات ولنقل يميل إليها الجسد. وللتفريق بين نوعيْ الرّضا (الرضا النزيه والرضا بالملائم) نقدّم مثاليْن: عندما أشاهد مرجا أخضر أشعر بالرّضا، رضا نزيها، فهو يعجبني رغم أنّني لا أملكه ولا أقيم فيه.

عندما آكل قطعة مرطّبات أشعر بالّرضا لأنّني أجد فيه متعة حسّية وأجدني أرغب فيها لأنّها تقضي على الجوع الذي أحسّ به. فالرّضا بقطعة المرطّبات هو رضا بالملائم ولا علاقة له بالجمال.

 

§4: الرّضا بالخير ليس رضا نزيها لأنّه مرتبط بمصلحة

إذا كان ما يجعلنا نحكم على شيء ما بأنّه ملائم هو الحواس، فإنّ ما يجعلنا نحكم على شيء ما بأنّه خيّر le bon هو العقل. وإذا كان ما يجعلنا نحكم على شيء ما بأنّه ملائم لأنّ الحواس تجعلنا نتلذّذ أو نستمتع به فإنّ حكمنا على شيء ما بأنّه خير يعود إلى أن العقل يبيّن لنا فوائده. يقول كانط في ص106 س17 "ولكي أجد أن شيئا ما خير فمن الضروري أن أعرف دوما من أيّ من الأشياء هذا الذي يجب أن يكون عليه الموضوع أي أن يكون لديّ مفهوم عنه". والمقصود بالمفهوم هنا هو المعرفة. طبعا هذه المعرفة غير ضرورية في الرّضا بالملائم والسبب هو أن الرضا بالملائم يكون بعد التلذّذ الحسّي كحكمي على قطعة مرطّبات بأنّها لذيذة وأنا أتذوّقها. فهناك دخول للتجربة عن جهل. بينما لا نقول عن شيء ما بأنّه خيّر إلا بعد التجربة. ولذلك الرضا بالملائم يسبق الحكم على شيء ما بأنّه ممتع. أجرّب الشيء فأجده ملائما فأحكم عليه بعد ذلك بأنّه خيّرممتع هذا من جهة، ولكن من جهة أخرى هناك فرق بين الملائم والخير. ولتوضيح ذلك يقدّم كانط مثالا (ص107س19): فالأكلة التي يكثر فيها الطبّاخ البهارات والتوابل تهيّج الشهيّة وتدفع للأكل بشراهة، فيراها الجائع ملائمة ولكن عقليّا ليست خيّرة لأنّها تضرّ بالمعدة وتولّد التخمة وتصرف الشخص عن الاعتدال. ورغم هذا الفرق فإن القاسم المشترك بين الملائم والخير هو الرّضا النفعي.

 

§5: مقارنة بين الأنواع الثلاثة من الرّضا: الرّضا النزيه، الرّضا بالملائم، الرّضا بالخير.

الملائم والخير لهما علاقة بالرّغبة والمتعة والفائدة.

-الملائم: هو الذي يبعث الإحساس بالمتعة والنشوة مثل: قهوة لذيذة، سيجارة فاخرة، عصير حلو، وردة عطرة، حمام دافئ، خمر معتّق...

-الخير: هو الملائم والمفيد صحّيا مثل العسل والحليب الهواء النقيّ ويكفي حتّى أن يكون مفيدا وغير ملائم حتّى يُعتبر خيرا مثل الدّواء المرّ... على نقيض ذلك فإن المضرّ حتّى ولو كان محبّذا فإنّه يدخل في الملائم ولا يدخل في الخير، مثل الخمور والسجائر والمخدّرات.

-الجميل: هو الذي يسرّ الرّوح بالمشاهدة أو السماع، مناظر طبيعية، لوحات جميلة، موسيقى عذبة...

الملائم هو ما يرضى الحواس والخير هو ما يرضي العقل ( الدواء المرّ لا يرضي الحواس ولكنّه يرضي العقل) والجميل هو الذي يدغدغ الرّوح.

1)للملائم قيمة حتّى بالنسبة للحيوان لأنّ شرط الرّضا هو الجسد فقط.

2)الخير يتطلّب عقلا إذا يتطلّب معرفة.

3)الجمال يتطلّب روحا ذوّاقة.

هذه العوامل الثلاثة كلّها تبعث الرّضا ولكن "رضا الذوق بالجمال هو وحده الرّضا النزيه والحرّ" (ص109آخر سطر). هو نزيه وحرّ لأنّ الاعتبارات الجسدية والنفعية والسياسية والأخلاقية لا تتدخّل. هو رضا مجرّد. لا علاقة له بأي شيء إلاّ بشيء واحد هو الجمال. والارتياح الذي يبديه شخص لسماع موسيقى هو من هذا القبيل. "إذ لا تحمل على الرّضا به أيّة مصلحة سواء مصلحة الحسّ (الملائم) أو مصلحة العقل (الخير)" (ص110س1).

 

مقارنة بين الأنواع الثلاثة من الرّضا

الرضا بالملائم/الرّضا بالخير/الرّضا بالجميل

 

الرّضا بالملائم

الرّضا بالخير

الرّضا بالجميل

الأداة

الجسد

العقل

العاطفة

عنصر كلّ أداة

الغريزة تطلب

المنطق يفرض

الجميل يجذب

         

النشــــــــــــاط

الإحساس(خاصّة

باللّمس والذوق) مع

طلب الليّن واللذيذ

المعرفة (معرفة

المفيد والنافع)

الإحساس (المشاهدة

السماع والشمّ) مناظر

جميلة موسيقى عذبة

  

التأثير على الذات

الميل (غريزي)

احترام المنطق

الإيثار (ليس هناك طلب

لفائدة شخصية، لاوجود

لأنانية وإنّما هناك استسلام

للجميل

غاية الطلب

اللــــــــــــــــذّة

( أو المتعة)

المنفــعـــــــــــــة

(أو الفائدة/المصلحة)

لا وجود لغاية (باستثناء

الاستمتاع بالجمال)

موقف الذات

ملائم (لذيذ)

خيّــــــــــــــــر

جميـــــــــــــــــل

اللذيذ في حاجة

لجسد محتاج

الخير في حاجة

لعقل يتمثّله ويوظّفه

الجميل في حاجة

لروح ذوّاقة تستمتع به

 

 

§6: الجميل هو ما هو مُدْرَكٌ من دون مفهوم كموضوع رضا كلّي

الأحكام إمّا موضوعية وإمّا ذاتية. الحكم الموضوعي هو حكم يؤسسه الموضوع ويتّصف بالعمومية (الشمولية والكلّية). الحكم الذاتي هو حكم تصدره الذات ويتّصف بالخصوصية. فهل يمكن أن نجد أحكاما ذاتية هي في نفس الوقت عمومية؟ وإن كان ذلك ممكنا فعلى أي أساس ننسب للعمومية محمول (أو صفة) الذاتية وبالتالي نقول هي عمومية ذاتية، والحال أنّهما يكشفان عن معنيين متناقضيْن؟

يقول كانط عن الجميل إنّه "موضوع الرّضا الخالي من كلّ مصلحة" (ص111س2). وهذا هو معنى النزيه. النزيه هو صفة كلّ عمل لا تحرّكه منفعة. الرّضا أو الارتياح الذي يمدّنا به الجميل هو بالضرورة نزيه أي حرّ (لا يخضع لمؤثرات تقيّده). طالما أن هذا الارتياح هو ارتياح نزيه فهو لا يتأسس على مصلحة ذاتية لأنّها لو كانت نفعية وذاتية لما كان الشعور فنّيا. ماذا يعني هذا الشعور النزيه؟ يعني أنّه لا يخصّ الذات فهو بالضرورة عام عند كلّ فرد وهذا هو معنى قول كانط في حديثه عن الفرد "لا يستطيع إلاّ وأن يحكم هو نفسه بأنّه يحتوي على أساس رضا لدى جميع النّاس... فهو لا يستطيع العثور على شروط ذاتية تكون أسبابا للرّضا وتتعلّق به وحده شخصيا" (ص111س4).

نستنتج ممّا سبق فكرة أولى هي أن الرّضا الذي نشعر به تجاه الآثار الجميلة لا يتأسّس على الذات (على رغبة ذاتية).

فهل يتأسّس هذا الارتياح على الأشياء الجميلة؟ طبقا لما سبق سيعتقد المُعجِبٌ أن هذا الارتياح يتأسّس على الشيء الجميل كظاهرة موضوعية وأن حكمه على الشيء الجميل هو حكم منطقي وبالفعل فالحكم الجمالي يشبه الحكم المنطقي من حيث أن له قيمة شمولية. يقول كانط "وسيتحدّث عن الجميل كما لو كان الجمال صفة للشيء وكان الحكم منطقيّا" (ص111س12) ويقول أيضا "ذلك أن الحكم الجمالي يشبه الحكم المنطقي" (ص111س15).

نقد هذا الاعتقـــــــــــــاد: الحكم الجمالي فنّي لا معرفي فمباشرتنا للأشياء الجميلة ليست دراسة علمية ولا تفضي إلى تشكيل معرفة كما لا نملك أطرا قبلية خاصّة بالذوق نباشر بها الأشياء مثل الأطر المنطقية القبلية الخاصّة بالمعرفة. كلّ معرفة تجريبية تتأسّس على أطر قبلية (المقولات الإثنا عشر) إلاّ الأحكام الفنّية فليست لها أطر قبلية.

نستنتج إذا ثانيا أن الرّضا أو الارتياح لا يعود أساسا للموضوع.

›ها نحن أمام مشكل عويص: فإذا كان سبب هذا الرّضا لا يكمن في الذات ولا يكمن في الموضوع فإلى أي شيء نرجعه إذا؟

وممّا يزيد في تعقيد المشكل أن كلّ فرد يعتقد أن الارتياح الذي يشعر به تجاه مشهد جميل يشعر به غيره أيضا. يسمّي كانط عملية إلحاق الشعور بالارتياح (الرّضا) بكلّ إنسان: الشمولية الذاتية أو العمومية الذاتية. وهو آخر تعبير في الفقرة6 (ص112س3). والسبب في هذه العمومية هو أن كلّ إنسان له ملكة الحكم الجمالي وهي الذوق.

ها أن الأمور ازدادت تعقيدا بإقتران هاتين اللفظتين المتنافرتين: عمومية/ ذاتية. ألا يكفينا مشكل معرفة مصدر الارتياح أمام الجميل، حتّى ينضاف إليه هذا المشكل الثاني. إن اقتران هاتين اللفظتين يجسّد فعلا معنى المفارقة le paradoxe فهل من تبرير لهذه المفارقة؟ هل وجد كانط نفسه مضطرّا لمثل هذا التعبير؟

تبرير المفارقة: المشكل الذي أثاره كانط بهذا التعبير هو التالي، في العادة ما يوحّد بيننا في الأحكام هو الظواهر الطبيعة. كلّنا متّفقون على أن الاحتكاك يولّد الحرارة وأن الأجسام تسقط بفعل الجاذبية لأن ذلك مثبت بالتجربة. لكن كيف يوجد اتفاق وبالتالي "أحكام موضوعية" في ما هو غير واقعي وغير مثبت بالتجربة؟ أي اتفاق في أحكام ذاتية. هل هذا معقول؟ كانط تحدّث عن الظاهرة وسمّاها "عمومية ذاتية" ولكن لم يفسّر السبب في هذه العمومية. نفى أن تعود هذه العمومية للذات، ونفى أن تعود للموضوع ولكن لم يبيّن إلى أيّ شيء تعود.

الحلّ الممكن: يبدو أن الحلّ يكمن في التفريق بين الذات الفردية والذات الإنسانية. إن ما يجعلنا نتّفق في الأحكام الجمالية هو الجانب الإنساني في كلّ ذات. كلّ ذات لها بعد ذاتي خاصّ بها وبعد إنساني تلتقي فيه مع الذوات الأخرى، ولهذا السبب تجد من يعجب بموسيقى أو رسوم وأفلام تأتيه من بلدان وقارّات أخرى. وكلّما جسّد الفنّان البعد الإنساني في فنّه كلّما وجد إقبالا على فنّه وتجاوزت شهرته حدود بلده. هكذا كان بوب مارلي في الموسيقى وغارسيا ماركيز في الأدب وشكسبير في المسرح وغيرهم كثير. فما يجعل العمومية في الأحكام الجمالية ممكنة هو أن هناك إنسانا وراء الذوات. التذوّق الجمالي يرتبط بإنسانية الإنسان لا بذاته الفردية. ما هو إنساني في الإنسان هو الذي وحّد بين الأفراد في تذوّق الجمال وخلق تلك العمومية الذاتية.

 

§7:مقارنة الجميل بما هو موضوع رضا نزيه بالملائم والخيّر

1- بخصوص الملائم: الذوق الخاص بالملائم شخصي.

الملائم كما وقع تعريفه في §3 هو موضوع تلذّذ الحواس. ولآنّ الملائم مرتبط بالحواس أي بالجسد ولأن لكلّ شخص جسد خاصّ به، فإن الأذواق الحسّية (الأذواق المرتبطة بالحواس) تختلف من شخص إلى آخر. ولأنّ "لكلّ ذوقه الخاصّ به" (ص112س19)، فإن الشخص الذي يقول إن خمر جزر الكناري ملائم، يصحّح له الغير قوله ويقول له "قل هو ملائم لي ولا تفرض ذوقك على غيرك".

فبخصوص الذوق الخاص باللّسان: هذا يجد المشروب حلوا والآخر يجده مرّا.

بخصوص الذوق الخاصّ باللّمس: هذا يجد الماء باردا والآخر يجده ساخنا.

بخصوص الذوق الخاص بالسمع: هذا يحبّ آلات النفخ واللآخر يحبّ الآلات الوترية.

بخصوص الذوق الخاص بالرؤية هذا يجد اللون البنفسجي جذّابا والآخر يجده منفّرا.

بخصوص الذوق الخاص بالشمّ هذا يجد رائحة هذا الطعام شهيّة والآخر يراها تبعث على الغثيان.

2- بخصوص الجميل: الذوق الخاصّ بالجميل شخصي يطمح لأن يكون إنسانيا شاملا.

كلّ شخص يحكم على شيء ما بأنّه جميل لا يعتقد أنّه جميل بالنسبة له هو فقط فهو يعتقد أنّه جميل بالنسبة له ولكلّ إنسان. والسبب هو أنّه يظنّ أنّه يتكلّم عندئذ عن الجمال كما لو كان [الجمال] خاصّية للأشياء" (ص113س5). ولذلك يذهب لحدّ مطالبة الآخرين الاعتراف بجمال ما يرى هو.

اعتراض بخصوص الملائم (ص113س14)

قلنا سابقا أن الذوق الخاصّ بالملائم شخصي فهل لا نجد أحيانا إجماعا بخصوص الحكم على الملائم؟ الواقع أنّنا نجد إجماعا بخصوص الملائم كالحكم على السكّر بأنّه حلو. وبسبب هذا الإجماع نقول عمّن يخالفنا الرأي بأنّه لا ذوق له. يقول كانط "وبموجب ذلك ينكر البعض تحلّيهم بالذوق" (ص113س15). هناك قولة منسوبة للغزالي تقول "من لم يحرّكه العود وأوتاره والرّبيع وأزهاره فهو فاسد المزاج ليس له علاج". بينما نقول عن شخص أقام وليمة وأسرف في إعدادها أنّه صاحب ذوق. فهل يعني هذا أن الفرق بين الحكم على اللائم والحكم على الجميل قد انعدم؟ لا! الفرق لم ينعدم. الإجماع في الحكم على الملائم عرضي بينما الإجماع في الحكم على الجميل جوهري. القواعد التي دفعت النّاس للتقارب في الحكم على الملائم هي قواعد عامّة وتجريبية (ص113س21) كالحكم على السكّر بأنّه حلو. بينما قواعد الحكم على الجميل هي قواعد كلّية.

3- بخصوص الخير: الحكم الخاصّ شخصي.

كانط لم يفرد للحديث عن الخير في هذه المقارنة إلا أربعة أسطر في آخر الفقرة7. صحيح أن كلّ شخص يعتقد أن أمرا ما خيّر، يعتقد أيضا أنّه خيّر لكلّ النّاس (وهنا يشبه الحكم على الجميل) ولكن الواقع أن حكمه هذا لا يتمّ إلاّ بواسطة مفهوم وبتعبير آخر تشبه هذه الوضعية وضعية شخص مريض بالزكام يعتقد أن أي دواء يتناوله لا بدّ أن يفيده جزئيا أو كلّيا.

تعليــــــــــــق

مصيبة بعض الفلاسفة أنّهم يقيّدون أنفسهم بمنظوماتهم ثمّ ينزّلونها على المواضيع ويخضعونها لما يخدم منظومتهم حتّى لو كان ذلك تعسّفا. هذا التعسّف نجده في حكم كانط على الملائم والخير. لأنّ كانط أخذ كمبدأ هو أن الإجماع في الأحكام لا يكون إلا على أساس ما تقوم به المفاهيم القبلية (في الذهن والعقل) من ربط بين الوقائع التجريبية. ولأن الإجماع في الأذواق الحسّية (مثلا السكر حلو) لا يتمّ بتدخّل المقولات القبلية لم يعترف  كانط بهذا الإجماع في الأذواق الحسّية. وظلّ ينظر إلى هذه الأحكام على أنّها أحكام شخصية.لماذا أخذ كانط العقل كأداة توحّد النّاس ولم يأخذ الجسد أو على الأقلّ بعض الجوانب كعوامل موحّدة بينهم؟

 

§8: عمومية الرّضا تجسّد حكم الذوق كحكم ذوق ذاتي.

أن يكون الحكم على الملائم (اللذيذ) ذاتيا فليس هناك إشكال الإحساس

أن يكون الحكم على الخير ذاتيا، فليس هناك إشكال -------الأخلاق

أن يكون الحكم على الظاهرة التجريبية كلّيا وعاما فليس هناك إشكال العلم

أمّا أن يكون الحكم على الجميل يختلف عن الحكم العلمي الكلّي وفي نفس الوقت يزعم أنّه كلّي مثله، فهذا هو العجب العجاب، وهذا هو الإشكال بعينه الفــــنّ

هذا الإشكال إن لم يكن يهمّ المنطقي، فهو يهمّ الفيلسوف الترسندنتالي [أي ذلك الفيلسوف الذي يرجع كلّ الأحكام الكلّية إلى المقولات القبلية] .

إن هذه الكلّية في الحكم الجمالي تطرح على الفلسفة الترسندنتالية عدّة مهام فعليها أن تجد مصدر هذه الكلّية وبذلك تكتشف خاصّية لملكتنا المعرفية التي من غير هذه الفلسفة ستظل (هذه الخاصّية) مجهولة.

أوّلا وقبل كلّ شيء يجب أن نؤكّد أن النزعة الكلّية أو العمومية أو الشمولية في الحكم الجمالي هي مجرّد  ميل وزعم وطموح وإدّعاء من الفرد وكأنّه سعي منه لإلزام الغير بأن يحكم مثله بالجمال على ما يراه جميلا. والغريب أن هذا الإلزام لا يطالب به الفردُ الغيرَ  في الحكم على الملائم ويعترف بخصوصية ذوقه في التلذّذ بالمأكولات والمشروبات وفي التنعّم بالفراش الوثير والعطور الشذيّة وكلّ ما تستلطفه الحواس. لذلك يسمّي كانط ما يروق للحواس بـ "ذوق الحواس" (ص114س20) وما يروق للعين والأذن فقط من جميل "ذوق تأمّل" (س20 أيضا).

تعليـــــــــــــــــــــــــــق

تخصيص التعبير "ذوق الحواس" لتذوّق الملائم هو تعبير غير دقيق، لأنّ تذوّق الجمال هو أيضا له علاقة بالحواس. والفرق بينهما هو أن تذوّق الملائم يُعجب بالجانب المادّي من الأشياء بينما تذوّق الجميل يُعجب بالجانب الرّوحي في الأشياء. مثال: عندما أساعد عصفورا سمينا وجميلا. فإذا اهتممت بسمنته واشتهيت أكله، فذوقي هنا هو ذوق الباحث عن الملائم إذ سبق لي أن أكلت اللّحم السّمين ولذّ لي. على نقيض ذلك إذا نظرت لمنظره الجميل فقط هنا أحدّث عن تذوّق للجمال والحاسّة هنا هي العين بحيث:

الحواس: اللّسان (الذوق) واليد (اللّمس) حاسّتان تتعلّقان بالاستهلاك وترتبطان بالجسد وتخصّان تذوّق الملائم.

الحواس: العين (الرؤية) والأذن (السمع) والأنف (الشمّ) لا علاقة لها بالاستهلاك المادّي وهي تتناول الجانب الرّوحي والمعنوي في الأشياء، أي جمال المنظر بخصوص الرؤية وجمال اللّحن بخصوص الأذن وجمال الرّائحة بخصوص الأنف. لذلك فتخصيص كانط لتذوّق الملائم بـ "ذوق الحواس" غير دقيق، حتّى تذوّق الجمال يتمّ عن طريق الحواس فهل سننكر هذا؟ ورغم كلّ ما قلناه، يجب أن نعترف أن تذوّق الجمال يطرح مشكلا فعليا، فلا هو مجرّد إحساس كالإحساس باللذيذ (في المأكولات والمشروبات) ولا هو معرفة روحية ذهنية مجرّدة كالأحكام العلمية. فهو في منزلة بين المنزلتين لأنّه ينظر للرّوحي في المادّي أي الجمال في الشيء. ويظلّ مقيّدا بالشيء بدون تجريد مثل العلم. فهو من جهة شخصي وذاتي (أي يرتبط بالحواس) ومن جهة أخرى يدّعي الكلّية والشمولية مثل العلم.

ملاحظـــــــــــــــــــــــــة

 صفحة 114س11 يفرّق كانط بين حكم الذوق على الجميل على أساس أن هذا الحكم يزعم الكلّية وحكم الذوق على الملائم على أساس أن هذا الحكم هو حكم شخصي(س20). ولكن نُفَاجَأُ في (ص114س22) "لكنّهما في الحالتيْن معا يصدران أحكاما جمالية وليس عملية". ما هذا؟ كيف يعدّ حكم الذوق على اللّذيذ حكما جماليا؟

الجـــــــــــــــــــــــواب

المشكل هو مشكل لغوي. في الفرنسية نقول عن الجميل beau ونقول عن الملائم  agréable والحكم على الجميل وعلى الملائم نسمّيهما أحكاما جمالية  des jugements esthétiques والملاحظ هنا

أن الجميل والجمالي في العربية لهما نفس الجذر وهذا ما لا نجده في الفرنسية لذا وجب التفريق بينهما. فالجمالي يشمل الجميل واللذيذ، والجميل طبعا هو فرع من الجمالي.

 

§9: بحث في السؤال: في حكم الذوق هل يسبق الشعور باللذة الحكم على الموضوع أم العكس؟

يبحث كانط في هذه الفقرة السؤال التالي: هل أن الشعور بلذّة موضوع ما يسبق الحكم عليه بأنّه لذيذ أم العكس؟ (والعكس هو الحكم يسبق الشعور). مع العلم أن الشعور باللذّة لا يعني التذوّق باللّسان فقد يكون بالأنف أو العين كما يحصل عندما نشاهد منظرا جميلا.

معنى السؤال قبل الإجابة عليه: يريد كانط أن يعرف هل أن حكم الذوق أي الحكم على موضوع ما بأنّه لذيذ نرجعه إلى الشعور باللذة وبالتالي إلى الإحساس والتجربة أم نرجعه إلى الذهن وتساهم المقولات القبلية في بنائه؟ فإذا كان حكم الذوق لاحقا على الشعور تبيّن لنا أن للإحساس دورا في إيجاد هذا الحكم، وإن كان يسبق الشعور وبالتالي الإحساس، تبيّن لنا أن دور التجربة الحسّية في حكم الذوق محدود.

يأخذ كانط فرضية أسبقية الإحساس والشعور باللذّة على الحكم على الموضوع اللّذيذ. ماذا تعني هذه الأسبقية؟

أوّلا وقبل كلّ شيء يجب أن نشير إلى أن الحكم على الموضوع بأنّه لذيذ معناه أنّه لذيذ بالنسبة لكلّ النّاس وليس بالنسبة لي أنا فقط. فماذا يترتّب عن ذلك؟ الملاحظ هنا أنّنا حكمنا حكما عامّا يشمل الإنسانية برمّتها انطلاقا من تجربة شخصية وبذلك  نكون قد وقعنا في تناقض. وهو التناقض الذي أشار إليه كانط في هذه الفقرة (ص118س8). والتناقض هو بين تجربة شخصية خاصّة بالفرد وحكم عام كلّي يشمل الإنسانية. فهل يعقل أن يكون هذا الحكم " الوردة لها رائحة عطرة لكلّ النّاس" مستمدّ من تجربتي الشخصية؟ طبعا لا! كيف عرفت أنها محلّ إعجاب عند كلّ النّّاس وهل سألت كلّ النّاس؟ وهل من المعقول أن تكون تجربتي بديلا عن تجربتهم؟

انتهينا إذا إلى أن هذه الفرضية بمسلّماتها وملابساتها تفضي إلى تناقض. فما هو حكمنا على الفرضية النقيض وهي أسبقية حكم الذوق على الشعور باللذّة أو بتعبير آخر أسبقية حكم الذوق على التذوّق الفعلي؟ تبدو هذه الفرضية من أولّ وهلة متهافتة وغير جديرة بالطرح أصلا. فهل يعقل أن أحكم على رائحة وردة بأنها عطرة قبل أن أشمّها أو أن أحكم على قصر بأنّه جميل قبل أن أراه؟

هذا الاعتراض مقبـول ولكن ما أدّى بكانط لهذا السؤال هو التالي: كيف أمكن لي أن أحكم على أن رائحة الوردة شذّية لكلّ النّاس؟ صحيح أنّها شذيّة بالنسبة لي، ولكن ما هو مبرّر تجاوزي لتجربتي الشخصيّة واعتقادي أن ما حكمت به سيحكم به غيري؟ كيف تأتّى لي أن يحكم حكما عامّا والحال أن التجربة شخصية؟ وهل يبني ما هو جزئي ما هو كلّي؟ وهل يؤسس ما هو فردي ما هو عام؟ هذا هو ما دفع كانط إلى افتراض إمكانية أن يتدخّل الذهن بمقولاته وهيكله القبلي لبناء هذا الحكم العام الذي يتجاوز التجربة الفردية.

نقــــــــــــــــــــــد:

ما عقّد الأمور في ما ذكره كانط سببه تداخل مسألتيْن، إذا توضّحتا توضّحت بوضوحهما مسائل أخرى فرعية. وهاتان المسألتان هما: مسألة تجاوز التجربة الذاتية ومسألة الأسبقية.

أوّلا وقبل كلّ شيء كانط لم يتعرّض للفرضية الثانية (أسبقية الحكم على الشعور باللذّة) لأنّها ليست فرضية حقيقية أو قائمة الذات وإنّما أدّى إليها البحث ضمنيا. كيف طرح كانط المشكل وكيف زجّ بنفسه في متاهات؟

المنطلق هو أن هناك شعورا ذاتيا باللذّة وكذلك هناك حكما على أن هذا الشعور ينتاب أي إنسان. من هذه الوضعية طرحت مسألة مشروعية تجاوز التجربة الذاتية والتناقض. ولأنّ هذا التجاوز حاصل ولابدّ من تفسيره طُرحت الفرضية الثانية ضمنيا. المسألة الثانية وهي مسالة الأسبقية، هي مسألة غير مفهومة وولّدت خلطا في الطرح. فليس لأنّ هناك تجاوزا للتجربة الذاتية، يجب أن نتساءل أيّهما أسبق: الشعور باللذّة أم الحكم على الموضوع اللّذيذ. لأنّ الواقع أن الإنسان يشعر ويحسّ ويحكم في نفس الوقت. فمن دون اختبار للواقع لا يستطيع أن يحكم على أي شيء ومن دون ذهن سيظلّ في مستوى الحيوان ولن يرتق من مستوى الإحساس إلى مستوى الحكم. وهذا ما انتهى إليه كانط في الفقرة الثانية، حيث اعتبر أن للذهن خاصّية تتمثّل في التبليغ الشامل للتمثّل أو الحكم على موضوع ما. هذه الخاصّية هي أساس نشاط حكم الذوق. بتعبير آخر يجب فهم هذه الخاصّية على أنّها ميل قبلي (فطري) في الذهن يرى أن ما يشعر به هو ما يشعر به غيره. فما هو حكم كانط على هذا التوجّه القبلي في الذهن الخاصّ بحكم الذوق؟ يراه كانط غير مقبول إذ "لا يمكن تبليغ شيء بشكل عام بإستثناء ما هو معرفة، و[كذلك] التمثّل من حيث يخصّ المعرفة" (ص118س14). التبليغ الشامل والمقبول والمعقول هو للأفكار. ففكرة أن كلّ زوايا المربّع قائمة هي فكرة أو معلومة جديرة بالتبليغ وموافقة الغير منتظرة، لكن لمّا نقول أن الخمر ألذّ شراب فأنت لا تبلّغ حقيقة. يقول كانط "فالمعرفة -من هنا- هي وحدها موضوعية ولها بموجب ذلك فقط نقطة اتصال عامّة تضطرّ بها قوّة التمثّل لدى كلّ فرد على الموافقة" (ص118س16).

إذا ماذا نقول عن حكم الذوق على شيء ما بأنّه لذيذ؟ هل هو فكرة؟ هل هو حقيقة؟ هل هو معرفة؟

إنّه ليس أكثر من "حالة نفسية" تنشأ في النفس عند الاحتكاك بموضوع ما وهي حالة خاصّة بالشخص لا يمكن عند تبليغها للغير أن ننتظر الموافقة عليها. ولسائل أن يسأل: لماذا هناك اتفاق بين النّاس في المعارف (على الأقل الإمكانية واردة) وليس هناك اتفاق في الأذواق؟ لماذا نجد في المعرفة الاتفاق والإلزام ونجد في التذوّق الفنّي الاختلاف والحرّية؟ السبب في نظر كانط هو أن القويّ المعرفية (الخيال والذهن) وعند إحساس ذوقي ما، تأخذ في العمل بحرّية لأنّها غير مقيّدة بمفاهيم قبلية كما هو الحال في المعرفة.

في ص 119 س19 يترك كانط مسألة الفصل بين حكم الذوق والمعرفة (وهي مسالة افتتح بها الكتاب في §1 ليفاجئنا بجملة غريبة وهي "إن إصدار هذا الحكم (الجمالي) الذاتي البحت على الشيء أو على التمثّل الذي يُعطى به يسبق اللذّة به".

بهذه الجملة سقط كلّ ما قلناه في الماء. لو قال كانط إنّ التمثّل أو الإدراك يسبق اللذّة لهان الأمر ولاعتبرنا أن احتكاك الإنسان بالأشياء هو احتكاك واع، أمّا أن يقول إصدار الحكم على الشيء يسبق اللذّة به فإنّ هذا هو العجب العجاب.

 

 

Tags

Enregistrer un commentaire

0Commentaires

Please Select Embedded Mode To show the Comment System.*

To Top