7. الجميل حسب كانط

ECRITS
0
            حسن الولهازي (تونس)


    تحليل قسم من الفصل الأوّل من الجزء الأوّل من كتاب

       "نقد ملكة الحكم" لكانط والمعنون ب" تحليل الجميل"
               (من الفقرة 1 
 الفقرة 22)

 

مقدّمة

   بالذهن l’entendement (ملكة القواعد) يصدر الإنسان أحكاما تخصّ المعرفة فيحكم على فكرة بأنّها صائبة أو خاطئة. وبالعقل la raison (ملكة المبادئ) يصدر مبادئ أخلاقية  فيقول عن السلوك إنّه فضيلة أو رذيلة. فبأيّة أداة يحكم على مشهد ما بأنّه جميل أو قبيح؟ يحصل ذلك بملكة الذّوق. فما هي الشروط أو العوامل التي تمكّننا من أن نحكم على شيء ما بأنّه جميل؟ إنّها تحاليل أحكام الذوق. لقد بحث كانط في ملكة الحكم أثناء عملها متّخذا "الوظائف المنطقية للحكم كدليل أو كمرشد لأنّ حكم الذوق يحتفظ دائما بعلاقة مع الذهن. وقد بدأ كانط بتحليل أحكام الذوق من جهة النوع la qualité لأن الحكم الجمالي على الجميل يأخذها بعين الاعتبار. يقول كانط "وقد بدأت بالنظر في جانب النوع أوّلا، لأنّ الحكم الجمالي في الجميل يأخذها هي أوّلا بالاعتبار" (§1ص101س15).

يحتوي القسم الأوّل من الفصل الأوّل من الجزء الأوّل من كتاب "نقد ملكة الحكم" والمعنون بـ "تحليل الجميل" على 22فقرة موزّعة على أربعة لحظات تنتهي كلّ لحظة بتعريف الجميل لا بالنظر إليه في حدّ ذاته ولكن في علاقته بالوعي الذي يتناوله. مخطط "تحليل الجميل" يسير "متّبعا إرشاد الوظائف المنطقية للحكم" (§1ص101س14). الوظائف المنطقية هي الأشكال التي يوحّد بها الذهن تمثّلاته في الأحكام. في "نقد العقل المحض" ميّز كانط بين أربعة أشكال أساسية لتوحيد التمثّلات. الثلاث الأولى مرتبطة بمضمون الحكم. نجد:

الكم la quantité: الحكم له قيمة بالنسبة للكلّ أو البعض أو لواحد فقط.

النوع la qualité: الحكم يؤكّد أو ينفي أو يضع حدّا.

العلاقة la relation: الحكم إمّا قطعي أو يعلن فرضية أو يفصل بين تمثّلين.

الكيفية la modalité: الكيفية تهتمّ بقيمة الرّابطة    la copuleبين الحاملle sujet والمحمولle prédicat  والحكم فيها إما ممكنا أو واقعيا أو ضروريا. وإذا اجتمع الحامل والرّابطة والمحمول كنّا تجاه قضيّة une proposition وهي بتعبير نحوي جملة مفيدة.

كانط بدأ في "نقد ملكة الحكم" بمفهوم النوعية لأنّ الجميل يخصّ الشكل وقد ذكر ذلك في الهامش كما أسلفنا.

 

ملخّص اللحظات الأربعة

اللحظة الأولى: الفقرات 5.4.3.2.1

عندما نقول عن شيء ما إنّه جميل فنحن نعود إلى الرضا الذي يمدّنا به تمثّل موضوع. ولكن ليس أي رضا. فللرضا أشكال. الرّضا la satisfaction بصفة عامّة هو علامة مصلحة  intérêt تكون لنا بحضورموضوع ما. هذه المصلحة إمّا تكون مرتبطة بحواسنا وبحضور الموضوع وعندئذ تكون ملائمة  agréable وإمّا تكون مرتبطة بعقولنا وبحضور الشيء وعندئذ تكون خيّرة  bonne لكن تجدر الإشارة إلى أن اللذّة (le plaisir) التي يمنحنا إيّاها تمثّل الأشياء الجميلة، ليست مرتبطة بوجود الموضوع فهي إذا متميّزة عن الخير le bon والملائم l’agréable . وباعتبار أن هذين الشكلين هما الشكلان الوحيدان للرضا النفعي، فإن الرّضا الذي يمنحنا أيّاه الجميل هو رضا نريه.

 

اللحظة الثانية: الفقرات 9.8.7.6

الجميل يحلو لنا من دون إقحام ميل أو مصلحة عقلية. لا نجد في أنفسنا شيئا شخصيّا يكون علّة هذا الرّضا. ومع ذلك نفترض أن الموضوع -الذي أعجبنا من دون أن تكون هناك علّة تجعله يعجبنا نحن فقط- يحتوي مبدأ يجعله يعجب كلّ النّاس. وهذا الاعتقاد هو الذي يدفعنا إلى أن ننسب للآخرين الرضا الذي نشعر به رغم أنّه (أي الرّضا) لا يرتكز على أيّ مفهوم.

 

اللحظة الثالثة: الفقرات 17.16.15.14.13.12.11.10

اللذّة التي يشهد بها الحكم الجمالي هي نتيجة للنشاط الحرّ الحاصل بين الخيال والذهن في عمليّة التأمّل. هذا النشاط حاصل من الموضوع الذي نتمثّله. وهذا الموضوع يبدو لنا كظاهرة مخصوصة لأحداث هذا النشاط. لكن هذه الغائية التي ننسبها للشيء لا ترمي إلى غاية انفعالية أو موضوعية (الجمال ليس الكمال) أو ذاتية (الجمال متميّز عن الجاذبية والإغراء والفتنة). هذه الغائية لا تفهم إلاّ كصورة محضة أو شكل محض في تمثّلنا.

 

اللحظة الرّابعة: الفقرات22.21.20.19.18

اللذّة التي نشعر بها في التذوّق، نشعر بها كضرورة دون أن نقْدر أن نستنتج هذه الضرورة من مفهوم. وإن كنّا ننظر لهذه الضرورة كإلزام يشمل الغير لتبنّي حكمنا، فذلك لأنّنا نفترض مسبّقا أن هناك "حسّا عامّا" وهو شكل متماثل من الشعور عند كلّ النّاس. وهو شكل لم يكن ولن يكون ناتجا عن التجربة ولكن يصلح أن يكون مرجعا لكلّ حكم ذوق.

 

 تحليل اللحظة الأولى: التعريف الأوّل للجميل: الجميل هو موضوع لذّة نزيهة.

 الفقرات 5.4.3.2.1

1- التجربة الجمالية واختلاف الأذواق:

عادة ما نقوم بتقييمات مرتبطة بظواهر وأشياء تعترضنا، فنقول عنها أنّها جميلة وجديرة بالإعجاب. من هنا جاء مفهوم التجربة الجمالية. فالتجربة الجمالية هي سلسلة التقييمات التي مرجعها الجميل. ومهما كانت "حساسية" البعض أو البعض الآخر، ومهما كانت اختلافاتهم وتناقضاتهم حول ما هو جميل وما هو الجميل، فكلّ شخص يقرّ بوجود الجمال ويفهم معناه. واثبات الأحكام الجمالية لا يستدعي مجهودا كبيرا. فالفهم المتداول لكلمة "ذوق" وعبارة "لكلّ ذوقه" تدلاّن على ذلك. لدرجة أنّنا نكاد نسلّم أن كلّ ذوق مبرّر ومقبول طالما أن كلّ الأذواق تجد منبعها في الطبيعة. فالطبيعة مكان عام يبرّر كلّ الأذواق حتّى أن من لا ذوق له قادر أن يفلت من النقد ويتبجّح بأنه يتلذّذ بسماع نهيق الحمار ويشمئز من زقزقة العصفور.

عمل كانط يهدف إلى الوعي بكلّ ما تطرحه التجربة الجمالية من إشكاليات: ما هو الجميل؟ لماذا تختلف الأذواق؟ هل للمعرفة دخل في التجربة الجمالية؟... وكلّ ذلك من أجل تحرير هذه التجربة من البداهات المزعومة.

2- الحكم الجمالي شعوري لاحسّي

أوّل ما بدأ به كانط في الفقرة الأولى هو تنزيل أحكام الذوق في إطار أنواع الأحكام بصفة عامّة. فأقام مقابلة بين أحكام المعرفة (يسمّها كانط أحكام منطقية) والأحكام الجمالية. الأحكام الأولى ترتبط بالمواضيع بينما الثانية ترتبط بمن يحكم. وهكذا فعندما نقول عن شيء ما "إنّه جميل" لا يعني أنّنا نكشف عن الخصائص الداخلية والمحايثة للموضوع أو نعرّف به. ولا يجب أن تغرّنا التركيبة المنطقية للقضية أو التركيبة النحوية للجملة. فشتّان بين الجملة "هذا الشيء جميل" والجملة "هذا الشيء مربّع". فالتشابه بينهما هو تشابه صوري نحوي فقط. كلّ جملة منهما هي جملة اسمية تتركّب من مبتدأ وخبر والمبتدأ في كلّ منهما هو مركّب بدلي. لكن عندما نأتي إلى جانب المعرفة، في الجملة الأولى نقول رأيا قابلا للنقاش بينما في الجملة الثانية نقول حقيقة. الرأي مرتبط بالذات والحقيقة مرتبطة بالموضوع. ولبيان أن الحكم الجمالي مرتبط بالذات لا بالموضوع نأخذ المثال التالي: عندما أنظر لزهرة لوز وزهرة دفلة أقول عنهما أنّهما زهرتان ولكن هل أستطيع أن أحكم على رائحة زهرة اللوز بأنها طيّبة ورائحة وردة دفلة بأنه نتنة دون أن أشمّهما؟ فحكمي الجمالي على الزهرة أو على غيرها لا يكون بمعزل عنّي ولكن يكون مؤسسا على الطريقة التي يؤثر بها هذا الشيء فيّ. على نقيض ذلك فإنّ المعرفة العلمية تضع بين قوسين شعور اللذّة أو النفور الذي يحدثه الشيء.

 إن حكم الذوق لا يتأسّس على الإحساس sensation  ولكن يتأسّس على الشعور sentiment أي أن المسألة روحية.فإذا كان تأثّر الحواس بالعالم الخارجي يسمّى إحساسا، فإنّ تأثّر الرّوح بالجمال يسمّى شعورا. فدور الذات في الشعور أهمّ من دور الموضوع فيه، ولذلك لا يعرّفني الشعور بالموضوع. فما يجب أن يبقى دائما ذاتيا ولا يستطيع بأي شكل من الأشكال أن يشكّل تصوّرا للموضوع هو الشعور باللذّة والألم. تكوّن ملكة الذوق مع ملكة المعرفة وملكة الرّغبة الملكات الثلاثة الضرورية للنفس.

3- اللذّة النزيهة

يريد كانط أن يبيّن أن اللذّة في حكم الذوق هي لذّة نزيهة un plaisir désintéressé. هذه التعبيرة "اللذّة النزيهة" أُخذت في أغلب الأحيان على أنّها التعبيرة المعبّرة عن فلسفة الفن عند كانط. (وقد وقع نقدها من قبل نيتشه 1844/1900). كيف نربط الموقف الجمالي إلى هذا النوع من اللامبالاة وانتفاء المصلحة الذي يوحي به مصطلح النزاهة؟  فهل نسمّي حقيقة لذّة تلك التي لا مصلحة فيها ولا فائدة ترجى منها هذا إن لم نقل سلبية؟

نسمّى عادة "نزيهة" كلّ حركة ليس دافعها الكسب أو الربح le profit.

بالنسبة لكانط نزاهة العمل الفنّي لا تظهر فقط عندما نقارن بين "الفن الحرّ" والمهنة كأداة ارتزاق لكن تظهر أيضا في موقف المشاهد للأثر الفنّي. والسبيل الذي اتخذه كانط لبيان نزاهة العمل الفنّي هو الفصل بين النزيه والملائم والخير.

4- ارتباطنا بالملائم والخير هو ارتباط مصلحة

ما هي المصلحة؟ يقول كانط في بداية الفقرة الثانية "يسمّى الرّضا الذي نربطه بتمثّل وجود موضوع، مصلحة". في هذا التعريف نجد عنصرين محايثين لحكم الذوق: هما التمثّل (أي الإدراك) وكذلك الرّضا. وما كان هناك رضا، إلاّ لأنّ هناك مصلحة تتجلّى في اللذّة التي نشعر بها. من هنا صلة المصلحة بملكة الرغبة سواء كان الرّضا مترتّبا عن وجود الموضوع الذي رغبنا فيه في حدّ ذاته (مثال الرّضا الذي يعقب القيام بواجب لا نرغب فيه ولا لذّة منتظرة منه ولكن نرغب في القيام به لذاته فقط مثل مساعدة أعمى على قطع الطريق) أو نرغب في ما وجوده يجب أن يمدّنا باللذّة. وهكذا فإنّ الرّضا النفعي نوعان:

1- إمّا هو رضا لطبيعتي الحسّية (كانط يقول في النصّ الطبيعة الحيوانية) التي تجد مصلحة في وجود الموضوع. نحن هنا أمام ما هو ملائم.

2- ولكن ليس لنا فقط طبيعة حسّية نحن أيضا كائنات عاقلة، ولأنّنا كذلك نشعر برضا نفعي من نوع آخر. في هذه الحالة الثانية الرّضا لا ينشأ من التمثّل الحسّي (إحساس) ولكن من التمثّل الذهني (مفهوم) للموضوع الذي هدفه هو الإرادة. الموضوع يمكن أن يكون خيّرا من حيث هو مفيد أي وسيلة لغاية هي بالنسبة له خارجية (مثل نشاط رياضي يمكّنني من استعادة صحّتي)، أو خير في حدّ ذاته (كأن أكون مستقيما طاعة للواجب لا غير).

ولكن الواقع أن التمثّل الذهني أو الحسّي سواء كان ملائما أو خيّرا، فإنّه يرمي في الحالتين إلى موضوع ما. فالميل أو الإرادة يتوجّهان إلى وجود الموضوع والرّضا الذي يمدّنا به هذا الموضوع هو رضا نفعي. بالمقابل فإن الجميل يمدّنا بلذّة لا تعبأ بوجود الموضوع (§2).

5- المصلحة والحاجة

لا توجد مصلحة إلا في الحال الذي توجد فيه حاجة. وكلّ حاجة مسجّلة في الطبيعة الإنسانية تسمّى ميلا عندما يكون مصدرها رضا الحواس. وتسمّى إرادة عندما يكون مصدرها غاية محدّدة من قبل العقل. في الحالة الأولى المصلحة تفترض الحاجة. في الحالة الثانية المصلحة تنتج حاجة (§5). والمقصود بذلك أن المصلحة هي ما يراه العقل لا ما ترغب فيه الحواس أو تفرضه العادة. وتبعا لذلك فما يراه العقل نافعا هو بالضبط ما أحتاج إليه. وما يراه العقل مضرّا لي فأكيد أنّني لا أحتاجه. مثال ذلك لا أحتاج لتناول المخدّرات طالما أن العقل بيّن لي أن في ذلك ضررا، حتّى ولو كان تناولها يولّد الإنتشاء. لا نجد في أنفسنا سوى هاتين الطبيعتين الحسّية والذهنية. لهذا السبب كلّ رضا لا يظهر علاقة بوجود الموضوع يعتبر نزيها ويميّز الجميل عن الملائم وعن الخيّر. تمشّي كانط في اللحظة الأولى يتمثّل في إجراء إقصائين ]إقصاء الملائم وإقصاء الخيّر[. لا يجب أن نعتبر أن الرّضا النزيه له طابع سلبي. فما هو ملائم ليس دائما خيّرا، وما هو خيّر ليس دائما ملائما. فبعيدا عمّا يعتقده جان جاك روسّو من أن القانون الأخلاقي هو رحيم، يعتقد كانط أن هذا القانون يفرض علينا مجهودا للتحكّم في أنفسنا. بين المظهرين للإنسان الماديّ والرّوحي، لا وجود لإنسجام مسبق ولكن هناك تجاذبات. فما احترمه ليس هو دائما ما أميل إليه. لكن نشاهد في اللحظة الأولى نوعا من تصالح الإنسان مع نفسه من خلال التجربة الجمالية. فالملائم يدلّ على صلتنا بعالم الحيوان، والخير (ما هو خير في حدّ ذاته) له قيمة عند كلّ كائن عاقل. الإنسان ليس ملاكا وليس حيوانا. فهو يجد في حكم الذوق تأكيدا لذاته من حيث هو إنسان. فبعيدا عن الصراعات التي يمكن أن تمزّقه في الطبيعة، فإن ملكة الحكم الجمالية تنشّط في الإنسان شعور التفتّح والإقبال على الحياة والتوازن.

  

 اللحظة الثانية: الجميل هو الذي يلذّ لكلّ إنسان من دون مفهوم.

الفقرات: 9.8.7.6

 

البرهنة عن التعريف الثاني للجميل قصيرة. فهي لا تحتلّ سوى جزء من الفقرة السادسة. بالمقابل وبعد عودة للتمييز بين الجميل من جهة والملائم والخير من جهة ثانية، يباشر النصّ نقطتين أساسيتين في نقد كانط لحكم الذوق (لفظة نقد عند كانط تعني تحليلا) وهما: فكرة العمومية الذاتية لهذا الحكم (ماذا تعني هذه العمومية وما هو الموضوع الذي يؤسّسها؟) وفكرة النشاط الحرّ لملكات المعرفة الذي يتقدّم اللذّة الجمالية.

1- البرهنة على التعريف الثاني للجميل

 إن تحليل كيفية تشكّل أحكام الذوق تبدو غير معنية بوجود الموضوع خارج احتياجات الحواس (الميول) أو العقل (الغايات). إن الرّضا الذي يمدّنا به الجميل هو أساسا نزيه أي حرّ. وهو رضا ليس سببه شخصي ولا أساسه في مصلحة موضوعية. ولذلك أستطيع أن أنسبه لأيّ شخص. إن لم يكن كذلك فأنا مطالب ببيان السبب الذي يجعل هذا الرّضا يخصّني أنا فقط. من دون شكّ لا نستطيع أن ننتظر من أي فرد أن يقبل مباشرة هذه العمومية المحتواة في حكمي الذوقي، ويقرّ بجمال ما أراه جميلا طالما أن هذه العمومية التي أنسبها للحكم الجمالي الذي أصدره خالية من كلّ تبرير موضوعي واقعي ولا تستند إلى أيّ مفهوم قبلي. ولكن هناك واقعة تشير إلى هذه العمومية: نحن نتكلّم دائما عن الجمال وكأنّه محتوى في الشيء نفسه في حين أنّنا لا نملك أيّة معرفة له، أي لا وجود لأيّ مفهوم للجمال في الشيء. أي مفهوم لا يستطيع أن ينتج مباشرة شعور الإعجاب واللذّة والألم اللهمّ إلاّ إذا كان مفهوما مرتبطا بمصلحة مثل تمثّل عمل مفيد أو خيّر. ولكن اللذّة الجمالية هي لذّة نزيهة، وبالتالي حتّى ولو كان هناك مفهوم فلن يكون هو سبب اللذّة التي قد نشعر بها (مثل التبريرات والتفاسير التي يمكن أن تصاحب أحيانا أحكام ذوقنا). فإذا عملنا كما لو أن أحكام ذوقنا موضوعية أو منطقية (بالقول: هذا جميل)، فليس ذلك لأنّنا نعرف أنّه جميل، فهذه المعرفة لا تفسّر لنا لذّتنا. لأنّنا نفهم أن الشعور بالجمال ليس حكرا علينا وبشعورنا به نشعر في نفس الوقت أنّنا نستطيع أن نفترضه عند كلّ واحد. وهذا ما يسمّيه كانط العمومية الذاتية. والعمومية الذاتية تتمثّل في أن ننسب للغير نفس الشعور الذي نشعر به وهو نسب غير مؤسس موضوعيا.

2- الإتفاق في تقييم الملائم والإختلاف في تقييم الجميل رغم إفتراض الإجماع (العمومية الذاتية)

يعود كانط إلى التمييز الذي وضعه في اللحظة الأولى بين الجميل والملائم والخير ولكن يتناوله هذه المرّة من زاوية الكم.

يعبّر الميل عن شعور شخصي، عن تفضيل لا قيمة له إلاّ بالنسبة للفرد الذي يعلنه. إن لفظة الذوق عند كانط تعني في نفس الوقت ذوق الحواس (الإحساس بكلّ ما هو ملائم) وذوق التفكير (إدراك كلّّ ما هو جميل) نحن هنا أمام لفظة (ذوق). وهذه اللفظة تعني واقعتين متميّزتين وهو ما شكّل مصدرا للغموض. أشار كانط إلى أن حتّى الحواس التي تبدو أكثر "نبلا" مثل الرؤية والسمع يمكن أن تكون مصدرا لميولات خاصّة. أستطيع أن أفضّل الأخضر على الأسود أو الناي على القيتار "فلكلّ ذوقه الخاص به" (§7ص112س19). لكن أن أقول عن موضوع إنّه جميل بالنسبة لي لأظهر للغير أن لي ذوق، معناه في نهاية المطاف الاعتراف ضمنيا بنقيض ما أدّعيه وهو ما يعتبره كانط "مهزلة".

إن إنكار القطيعة بين الجميل والملائم معناه أنّنا لا نملك ذوقا. على نقيض ذلك الإقرار بأن شيئا ما جميل، معناه التكلم للغير كما نتكلّم مع أنفسنا، معناه فرض موافقة الآخر دون أخذ بعين الاعتبار الظروف التي يمكن أن تعيقه. كانط يريد أن يصل إلى الشيء التالي: وهو أن التشابه بين الإجماع المحتمل في تقييم الملائم وعمومية الأحكام الذوقية ليس إلا  تشابه ظاهري وسطحي، هناك في الواقع قطيعة جذرية.

ما هو غربت هو أنّنا نستطيع أن نلاحظ في الوقائع اتفاقا واسعا حول ما هو ملائم، بينما حكم الذوق الموثوق به يتطلّب موافقة الجميع ويمكن أن يصطدم بعدم اتفاق. ملاحظة كانط هامّة. هناك توحيد لذوق الحواس، هو نتيجة لنوع من تقليد الآخرين أو نتيجة لميل للتفكير وللشعور مثلهم. والحجّة على ذلك كما يقول كانط أنّنا عندما نقول عن شخص إنّه صاحب ذوق، فذلك معناه أن له إحساس بما هو ملائم للآخرين. إن هذا الذوق المزعوم يطلب ما هو ملائم لأكبر عدد ممكن من النّاس في ظروف معطاة. القاعدة إذا تجريبية (أي تتوقّف على ظروف معطاة) وبالتالي فهي عامّة (لها قيمة في حالات عديدة لكن لا أعرف هل يجب أن تكون لها قيمة في كلّ الحالات). هناك تعريف اجتماعي لما هو ملائم يبدو متجاوزا التفضيل الفردي، ولكن هذا التعريف الاجتماعي وبالارتكاز على تجميع الوقائع والخصوصيات وبالمقارنة بينها، لن يتمكّن من بلوغ عمومية أحكام الذوق الخالصة. إن العمومية الحقّة هي عمومية مبدأ واختلاف الآراء لا يمكن أن يظهرها.

هل هذه العمومية الحقّة نجدها في الإجماع حول الملائم والإجماع حول الجميل؟

كانط يعتبر أن هناك إجماعا حول الملائم، يقول "إنّنا نجد في الوقت نفسه إجماعا  بين البشر حول الحكم المتعلّق بالملائم" (§7ص113س14) على نقيض ذلك فإن الإجماع حول الجميل غير حاصل ولكنّه مزعوم أو مفترض من قبل كلّ شخص "إن زعم الصلاحيّة الكلّية هذه تعدّ من جوهر حكم نعلن فيه عن شيء أنّه جميل" (§8ص114س13)، وهو زعم غير مبّرر وغير مشروع ولذلك يسمّيه كانط العمومية الذاتية. فالعمومية الحقّة لا توجد إلا في العلوم. لا يختلف اثنان في أن مجموع زوايا المثلث مساوية لـ 180 درجة.

فإذا كان الأمر كذلك بالنسبة للملائم والجميل فما قولنا في الأحكام حول الخير هل تتّسم بالعمومية أم الذاتية؟

3- العمومية المنطقية والعمومية الجمالية

على نقيض الأحكام حول الملائم والأحكام حول الجميل تعتبر الأحكام حول الخير أقرب الأحكام للمعرفة العلمية. يقول كانط "أمّا بخصوص الخير فصحيح أن الأحكام تدّعي على حقّ أنّها صالحة لكلّ النّاس لكن تمثّل الخير لا يتمّ إلاّ بواسطة مفهوم كموضوع رضا عام وهذا غير حاصل لا في حالة الملائم ولا الجميل على حدّ سواء" (§7ص113س23).

تبدو الأحكام حول الخير عامّة. فهي تزعم أن لها قيمة عند كلّ النّاس. وهذه العمومية مؤسسة على مفهوم أي أن الخير يمكن أن يكون موضوع تعريف. فالمقارنة بين الجميل والخير تعود في نهاية المطاف إلى تمييز العمومية الذاتية عن العمومية الموضوعية. هذا التمييز هو موضوع الفقرة 8. إن مقارنة الجميل بالملائم والخير ـوبالنظر للكمّيةـ تبيّن أن ما يميّز الجميل عن الملائم (وهو العمومية) يقرّبه من الخير، في حين أن ما يميّزه عن الخير (وهو غياب المفهوم) يقرّبه من الملائم. ملكة الحكم الجمالي توفّق بين الطبيعة الحسّية للإنسان وطبيعته الذهنية وذلك بإظهار رابط بينهما.

العمومية محايثة لحكم الذوق. يقول كانط إنّها إدّعاء ومع ذلك إذا انعدمت، انعدمت معها صفة الجميل.

إن أمر الجميل يثير الدهشة أكثر من الملائم. فالملائم مثله مثل الجميل يستمدّ مصدره من موضوع يحلو لنا من غير مفهوم ولكنّه على خلاف الجميل لا يبحث عن أي شكل من أشكال موافقة الآخر رغم الإجماع الذي يمكن أن يلقاه. فمن ينكر أن العسل لذيذ؟ والمقصود بأن الموضوع يحلو لنا من غير مفهوم هو أن هذا الموضوع يحلو لنا دون أن نجد تبريرا علميا أو معرفيا يقنع الغير باختيارنا. فالمفهوم هو دلالة على المعرفة.

رغم أن مصدر الملائم والجميل واحد وهو: شيء يثير الإعجاب من غير مفهوم، فإن الملائم لا يبحث عن أي نوع من الموافقة من قبل الغير بالرغم من الإجماع الذي يمكن أن يلقاه. ما هو هذا الإدّعاء الذي يعلن عن نفسه في ذوق التفكير وما هو الشيء الذي يؤسسه؟ تفهم العمومية بطريقتين:

1-إمّا أن القضية صالحة لكلّ الكائنات وتلبّي شرطا معيّنا.

2-وإمّا أن تكون حقيقية بالنسبة لمن يفكّرون في هذه الأشياء.

يسمّي كانط الأولى عمومية منطقية وهي تتأسّس على معرفة الموضوع. الثانية تدلّ فقط على علاقة التمثّل بالشعور باللذّة والألم وهي عمومية جمالية. ولكن إذا كان صحيحا أن القاعدة التي تنطبق على مجموعة من الأشياء لها قيمة فقط بالنسبة لمن يفكّر في موضوع من هذه الموضوعات، فإن العمومية الذاتية لحكم الذوق لا تسمح بأي شكل من الأشكال أن أنتهي إلى قاعدة تنسحب على مجموعة من المواضيع. ذلك أن الحكم الجمالي هو دائما مفرد أي أنّه لا يعني إلاّ موضوعا واحدا ولكن يشير إليه كموضوع. وبالتالي لا نستطيع أن نعيّن قاعدة انطلاقا منها يمكن أن نكون مجبرين على الاعتراف بجمال موضوع ما، باعتبار أن قاعدة مثل هذه تفترض عمومية منطقية. لنا إذا في الأحكام الجمالية تفرّد موضوعي (حكم لا ينطبق إلا على موضوع واحد) وفي نفس الوقت عمومية ذاتية (ما هو معبّر عنه بخصوص ذلك الموضوع يجب أن تكون له قيمة بالنسبة لمن أدركوه).

ولكن إلى أيّ شيء نرمي بإقرار هذه العمومية الذاتية المحايثة لأحكام الذوق؟ طبعا لا نرمي إلى قبول محكوم من قبل مفهوم ينحدر منه هذا القبول (وضعية العمومية المنطقية). "حكم الذوق لا يسلّم بموافقة كلّ أحد". إنّه لا يطرحها كمكتسب منذ البداية. فهو يفرض على كلّ أحد موافقته من أجل قاعدة. هي بطريقة أخرى في غير المتناول وتأكيدها يخضع لموافقة الآخرين. لا وجود لتسليم وبالتالي لموافقة فعلية إلاّ بإمكانية حكم من هذا القبيل.

4- النشاط الحرّ لملكات المعرفة والعلاقة بين الذوات أو البينذاتية l’intersubjectivité

يتكلّم كانط عن "مفاتيح نقد الذوق" (§9ص118س4) عندما يباشر مسألة معرفة ما إذا كان في حكم الذوق الشعور باللذّة يسبق الحكم على الموضوع أو العكس. ها هنا نلمس نقطة أساسية بالنسبة للانسجام الدّاخلي لخطاب كانط.

أكّد كانط في تحليله للذّة النزيهة على أنّه من العبث أن نتكلّم عن حكم جمالي في الوقت الذي لم يوجد فيه بعد شعور بالرّضا. فهل وضع الشعور بالرّضا في البداية يعني أسبقية اللذّة على الحكم؟ كانت لهذا السّؤال إجابة ضمنية في نهاية §3ص106س5 حيث يقول كانط "ليس ثمّة أي حكم على طبيعة الشيء لدى أولئك الأشخاص الذين يتهافتون بلا انقطاع على التلذّذ (لأنّ هذه الكلمة هي التي تصف لبّ المتعة) ويعفون أنفسهم –غير آسفين- من كلّ حكم". بتعبير آخر إذا كانت اللذّة هي المبدأ المحدّد لأحكامنا فلا نفهم لماذا نتحمّل مشقّة إعلان الأحكام؟

يستخدم هنا كانط طريقة البرهان بالخلف أي أنّه يتقدّم في طرح نتائج غير مقبولة ومتناقضة للأطروحة التي يرمي إلى رفضها. فإذا كانت اللذّة هي الأولى وتؤسس الحكم، فإنّها هي نفسها لن تتوقّف إلاّ على التمثّل اّلأوّلي أو الأصلي للموضوع. ولكن هذا التمثّل كما رأينا سابقا هو خاصّ واللذّة التي يمدّنا بها لن تكون إلا خاصّة، وبالتالي عاجزة عن تأسيس إدّعاء موافقة عالمية أو عامّة.

بالنظر إلى أن هذا الإدّعاء هو عنصر مكوّن لحكم الذوق، فإن اللذّة هي نتيجة الحكم وليست مبدأَه.

كلّ ما يتنزّل في إطار المعرفة هو الوحيد القابل للتبليغ عالميا أو كونيا لأنّ المعرفة تسقط من حسابها كلّ ما هو ذاتي. إلا أن في حكم الذوق لا وجود لمفهوم، لا وجود لعرفة للموضوع، وبالتالي فما يقع تبليغه ليس معرفة فعلية طالما أنّها غير موجودة ولكن ما يقع تبليغه هو الحالة التي توجد فيها النفس العارفة. ولكن بيّن كانط في "نقد العقل المحض" أن ما يقوم به الفكر العارف هو التوحيد بين الخيال الذي يشكّل محتوى الحساسية والذهن الذي يوحّد التمثّلات تحت قاعدة. في حكم الذوق "الملكات التمثّلية" وهما الخيال والذهن تحفظ أو تصون نشاطا حرّا ومنسجما وهو وفرة الصوّر والأفكار حول التمثّل الذي اختبرناه في عمليّة تأمّل الجمال. إن هذا الانسجام بين ملكات المعرفة هو الذي يؤسس لذّتنا  ولأنّه يحدث هذا النشاط الحر ّ لملكاتنا يلذّ لنا الموضوع. الاتفاق الحرّ بين ملكات المعرفة هو من جهة ذاتي طالما أنّه لا يحدّد أيّة معرفة بشكل خاصّ ولكنّه من جهة أخرى قابل للتبليغ طالما أنّه يلائم كلّ معرفة بصفة عامّة، يؤسس إذا لذّة يكون فيه إدّعاء موافقة الآخرين أخّاذ. نسمّي بينذاتية intersubjectivité  ذلك التواصل الأساسي بين الأفراد الواعين. في حكم الذوق تتأكّد نوعية من الوجود مع الآخر، نوعية أوّلية طالما أنّها لا تنتظر موافقة فعلية ولكنّها مباشرة مفروضة. نحن لا نستدعي الآخر ليشاركنا شعورنا. نحن نأمل أن يشاركنا الآخر هذا الشعور. في هذا المعنى، الحكم الجمالي هو حركة أساسية في التواصل. فهو يضع هذه "البينذاتية الأصلية" التي تسبق بحق كلّ اتفاق وكلّ مقابلة مع الوقائع.

وهكذا يقودنا تحليل التعريف الثاني إلى نتائج التعريف الأوّل. فبالارتكاز على الطابع النزيه للذّة، فإنّ العمومية الذاتية توضّح هذه النزاهة طالما ظهر أن اللذّة ليس مصدرها في الإحساس نفسه ولكن في النشاط الحرّ لملكاتنا التمثّلية التي يحدثها الإحساس ويصونها. في نفس الوقت الاتفاق الداخلي للإنسان مع نفسه يتضاعف باتفاقه مع غيره وباتفاق غيره  مع غيره.

 

 

اللحظة الثالثة: الجمال هو شكل الغائية لموضوع ما كما هو (أي الشكل) من دون تمثّل لغاية

الفقرات: 17.16.15.14.13.12.11.10

 

لنذكّر باللحظتين السابقتين من تمشّي كانط. بعد أن بيّن أن اللذّة الجمالية هي لذّة نزيهة (اللحظة الأولى) استخلص الشمولية اللازمة لهذه النزاهة. وهي شمولية ذاتية ناجمة عن النشاط الحرّ لملكاتنا المعرفية والتي نختبرها أثناء التذوّق (اللحظة الثانية). والسؤال الذي يُطرح هو: كيف نفهم هذه العلاقة المميّزة التي تتشكلّ بين الشيء الجميل وهذه الملكات؟ هذا هو السؤال الرّئيسي الذي سعى كانط للإجابة عليه في اللحظة الثالثة.

1- غائية من دون غاية

كلّ لذّة تكون مصاحبة لفعل ما. ومراحل انجاز هذا الفعل هي عينها مراحل تحقيق اللذّة. وبنهاية الفعل تكتمل اللذّة. مع الإشارة إلى أن هذه اللذّة مصحوبة بتوقّع النهاية التي يسعى إليها الفعل.

الغاية la fin هي ما أطمح أن أحقّقه في الواقع بالقيام بفعل ما. فغاية التلميذ من الدراسة هي النجاح وغاية الفلاّح من عمله الحصول على إنتاج وفير. وهكذا فالعمل هو عبارة عن مراحل انجاز الغاية وبنهاية العمل تحصل الغاية. مع الإشارة إلى أن هذا العمل مصحوب بتوقّع الغاية.

الغائية هي سببية مقلوبة لأنّ الغاية هي التي تحرّك الفعل. فالغائية la finalité هي ذلك الترابط بين الغاية التي نعي بها ونطلبها والفعل الذي هو بمثابة الوسيلة لتحقيقها. لنطبّق هذه الاعتبارات على اللذّة الجمالية.

الشيء الجميل يغذّي في نفسي نشاط الخيال والذهن فأشعر مباشرة باللذّة. ذلك أن تنشيط ملكاتي الإدراكية لا يبدو لي خال من علاقة مع الشيء الذي أدركه. على العكس من ذلك فهذا الإدراك هو في قلب تجربتي. وإن اندثر (أي الإدراك) تندثر معه اللذّة وكأن هذا الموضوع جعل لإحداث هذه الحالة. فهناك رباط غائية بين هذا الموضوع والحالة التي أنا فيها. هل أستطيع أن أقول إن هذا الشيء يتبع غاية ما؟ وإن كانت موجودة فما هي؟

إن نشاط ملكاتي في التلذّذ الجمالي كأنّه تردّد لا يتوقّف بين الخيال الذي يتناول الموضوع والذهن الذي يفكّر فيه. كلّ ما هو جميل هو عبارة عن خزّان لا ينضب من دوافع الإعجاب والتقدير.

من جهة أخرى فكرة الغاية المحدّدة تفترض وجود إرادة هي التي ضبطت تلك الغاية. فأية إرادة هذه؟ في حالة الجمال الطبيعي، لا وجود لأيّة معرفة تسمح لي باستخلاص إرادة إلهية. في حالة الجمال الفنّي فإن الأسرار التي تحيط بعملية الإبداع تنفي أن يكون الأثر الفنّي المنتج يتطابق بالضرورة مع هدف ملاحق. لا وجود لغاية محدّدة لاذاتية (في الأنا) ولا موضوعية (في موضوع إدراكاتي). فأنا أدرك إذا من خلال اللذّة الجمالية غائية من غير غاية. ثمّ إن الحكم الجمالي ليس حكم معرفة للموضوع. فالغاية التي أدركها ليست إذا موضوعية (أي مبنية على معرفة الموضوع) ولكن ذاتية مبنية على الوعي بحالتي الخاصّة. لا أدّعي أن هناك بالفعل غائية للموضوع. فقط يبدو الموضوع وكأنّه جُعل ليحدث حالة اللذّة هذه بشكل ذاتي. هذه الغائية من غير غاية محدّدة، هي غاية شكلية أو صورية. إنّها شكلية  من  دون محتوى أو مادة  لغاية مخصوصة.

إن غائية من دون غاية محدّدة  ولأنّها بناء على ذلك تضعف ولا تندثر عندما تحقّق غاياتها، لا يمكن إلاّ أن تحافظ على نفسها. اللذّة الجمالية تسعى كي تحافظ على نفسها بشكل لا متناهي في عملية التأمّل، مدّة اللذّة الجمالية تتغذّى من النشاط الخاصّ لملكات النفس في الوقت الذي تكون فيه النفس منفعلة عندما تكون أمام مجرّد مفاتن. والمفاتن متميّزة عن الجمال.

2- المفاتن

على حكم الذوق أن يكون غير منحاز حتّى يمكن تبليغه في كلّ مكان. ما معنى غير منحاز؟ أي أن أعتقد أن هذا الأثر الفنّي يجب أن يكون ذا قيمة بالنسبة لكلّ النّاس لأنّه ذو قيمة بالفعل وليس ذا قيمة بالنسبة لي أنا فقط. لكي يستوفي هذا الشرط على حكم الذوق أن يكون خالصا، صافيا، محضا، حراّ، مجّردا، سليما pur وهذا ما يدفعنا إلى التمييز بين الجمال والمفاتن بين الجميل والفتّان.

لنفترض أنّي كنت أمام لون ما يمكن أن أجده جذّابا وأفضّله على أي لون آخر، ومع ذلك لا أستطيع أن أزعم أن اللذّة التي يمدّني بها هذا الحسن يمكن أن تكون قابلة للتبليغ لكلّ إنسان لأنّ الآخر يمكن أن يفضّل لونا آخر. وتبعا لذلك لا يمكن أن أؤسس حكم ذوق خالص انطلاقا من الحسن. فهل أستطيع من هنا أن أستنتج أن اللّون في حدّ ذاته ليس جميلا؟

إن اللّون جميل إذا كان خالصا، صافيا. ما معنى ذلك؟ كيف نفهم هذا الصّفاء؟ يكون هذا اللّون صافيا عندما يتناوله ذهني كوحدة متجانسة بقطع النظر عن الشيء الذي يوجد فيه هذا اللّون. كلّ لون جميل طالما كان صافيا، وصفاؤه لا يكمن في المادّة التي أدركها ولكن في الشكل la forme . لا يجب الخلط بين مصطلح الشكل المقصود هنا ومصطلح محيط الشيء le contour . ويمكن توضيح فكرة كانط أكثر مع ظاهرة الصوت. فالصوت أبعد عن المادّة من الصورة وبالتالي يمكن إدراك صفائه وبالتالي جماله. وصفاؤه يكمن في انتظام النغمات التي نسمعها. الشكل هو "وحدة إحساسات مختلفة"، وحدة وجه أو وجوه (يظهر هذا في الرسم والرقص) أو إحساسات (في الموسيقى) يقع تقبّلها في لون واحد أو صوت واحد.

الحسن منطبع في مادّة الإحساس أي في ما يتأتّى من التجربة، بينما الجمال يكمن في الشكل الذي يدركه الذهن اثناء تجربة ما. يمكن للحسن أن يقود نحو الجمالِ الذهنَ الذي لم يع بعد بإستقلاليّة تفكيره.

3- الكمـــــــــال

إن الذوق الذي يخلط بين الحسن والجمال هو بفعل التلوّث اليومي لهذا الذوق. والأمر مختلف في الخلط بين الجمال والكمال. فقبل كانط –مع لايبنيتس- وحتّى بعد كانط –مع هيجل- نجد فكرة أن الجمال هو الإدراك الغامض للكمال. ما يهمّ كانط هو الدفاع عن نقاوة الذوق أي استقلالية الحكم الجمالي الحقيقي. هناك كمال كيفي للشيء وهو تساوق ما يكوّنه حسب مفهوم، وهناك كمال كمّي يكمن في الشيء برّمته (أي كلّ ما يجب أن يوجد موجود فهو "تام"). يقول كانط "لكي نستطيع تمثّل غائية موضوعية في شيء- من أن يسبق ذلك مفهوم عنه، أي من أية طبيعة يجب أن يكون، وتآلف المختلف في الشيء بغية الحصول على هذا المفهوم (الذي يزوّدنا بقاعدة ربط المختلف فيه) هو كماله الكيفي. ويختلف عنه الكمال الكمّي اختلافا تامّا من حيث هو كمال كلّ من الأشياء من ناحية نوعه، وأنّه مجرد مفهوم حجم (مفهوم الكلّية)" (§15ص131س16). في حالة الكمال الكيفي أو الكمّي، يجب أن أتمثّل ذهنيا ما يجب أن يكون عليه الشيء أي يجب أن يكون لي مفهوم الغاية الموضوعية لهذا الشيء. ولكن رأينا أن الغائية الجمالية هي غائية ذاتية (ليس لي أيّة معرفة لغاية الشيء الجميل لأنّ لا معرفة لي في حكمي الجمالي، إذ طالما أنّه لا يوجد كمال من دون غاية موضوعية وطالما لا توجد غاية موضوعية في الحكم الجمالي، فإنّ هذا الحكم لا يمكن أن يتناول الكمال حتّى ولو كان تناولا غامضا. كمال دون غاية موضوعية هو تناقض في المصطلحات.

4- الجمال الحرّ والجمال التابع

لا وجود لأيّ مفهوم بخصوص ما يجب أن يكون عليه الشيء في الحكم الجمالي وكيف يكون ذلك ومبدؤه ذاتي. لكن يمكن أن يكون لموضوع الحكم الجمالي، بمعزل عن هذا الحكم،غاية داخلية لا تنفصل عنه فبمجرّد أن أشاهد كنيسة حتّى تتأتّى لذهني الغاية التي من أجلها بنيت وهي العبادة، ولا أستطيع أن أمنع ذهني من هذا الخاطر. فعندما أحكم على هذه الكنيسة حكما ذوقيا أجد نفسي محكوما بتلك الغاية التي من أجلها بُنيت. فهذا الجمال إذا محكوم فيه. يسمّيه كانط "جمال تابع". وما قلناه على الكنيسة نقوله على منتجات الفنون. يقول كانط في بداية الفقرة 16 "الجمال نوعان: جمال حرّ أو جمال تابع. والأوّل لا يفترض أيّ مفهوم لما يجب أن يكون عليه الشيء. والثاني يفترض مثل هذا المفهوم وكمال الشيء وفقا له".

ليس من هذه الناحية نبحث عن حكم الذوق الخالص، ولكن من ناحية الجمال الحرّ، الغير مشروط بمفهوم غاية لذلك الشيء. ففي الطبيعة نجد هذا النوع من الجمال الحرّ: وردة، عصفور، شلال... دون أن نربط هذه الأشياء بغاية موضوعية، ولكن أيضا الآثار الفّنية التي نتلذّذ بها لذاتها: رسوم جميلة، قطع موسيقية... في هذه الحالات فقط يكون الحكم الجمالي كلّيا خالصا، نقيّا صافيا. إنّ التوافق بين الرّضا الجمالي والرّضا الفكري، رغم أّنه لا يضيف إلى الجمال شيئا بل أكثر من ذلك قد يضرّ بالحكم الجمالي، فإنّه رغم هذه السلبيّات ايجابي للذهن.

5- المثل الأعلى للجمال

تعمّق الفقرة 17 هذا التوافق بين بعض أحكام الذوق (وهي التي تنطبق على الجمال التابع) ومفهوم الموضوع.

إن الطابع التواصلي للإحساس بين النّاس والذي اختبره في حكم الذوق وكذلك الإجماع القائم بين النّاس في مختلف العصور، هما بمثابة علامات مبدأ اتفاق رغم أنّه من المستحيل إرساء معيار كلّي للجميل.

إن الذوق لا يكتسب بتقليد الآثار العظيمة. إن النموذج الأعلى للذوق مجرّد فرضية لا واقع، هو مجرّد مثال un idéal فما هو المثال؟

المثال هو"تمثّل كائن وحيد من حيث أنّه مطابق لفكرة" (§17ص138س1). إن كان هناك مثال فهو بالضرورة مرتكز على فكرة. ولكن هل أنّ كلّ نوع من الجمال له مثل هذا المثال؟ إن مطابقة المثال للفكرة تفترض حكم ذوق قد وقع التفكير فيه، فهي تقصي منذ البداية الجمال الحرّ أو المبهم أو الغير المحدّد. وبالفعل لا يمكن وجود مثال لزهرات جميلة ولا مثال لمنزل جميل لأنّ غائية هذا الموضوع هي تقريبا مبهمة وغير محدّدة مثلها مثل الجمال الحرّ. الإنسان فقط هو الوحيد القابل لمثال الجمال لأنّه يحمل في ذاته غاية وجوده والإنسانية فيه قابلة لمثال الكمال.

إن الفكرة العادية للجمال هي نموذج حكمنا الجمالي على الإنسان من حيث هو عنصر من النوع الحيواني. إنّها تُكتسب في كلّ فرد بتراكب أو تنضيد عديد الصوّر التي تمثّل –بالنظر للشروط المتغيّرة لتجربتنا- أداة مثلى تصلح أن تكون مقياسا لأحكامنا. هذا النشاط لمخيّلتنا يبدو لنا غير مفهوم. فهو يكشف عن "فنّ متخفّي في أعماق الرّوح الإنسانية". إن الفكرة لا تعطينا نموذج الجمال في النوع ولكن فقط الشرط اللاّّزم لكلّ جمال. ولكلّ نوع نموذجه.

لا يوجد بالمقابل سوى مثال للجمال هو الإنسان من حيث أن صورته الإنسانية، تحت شرط الفكرة العادية للجمال تعبّر (أي الصورة) عن الطابع الأخلاقي للإنسان. ولكي يُدرك هذا التعبير ويقيّم هو في حاجة لتوافق وأخيرا هو في حاجة لوحدة بين عقل ناشط ومخيّلة قويّة. ورغم أن حكم الذوق هنا لن يكون خالصا، فإن من شأن هذه الوحدة بين ما وقع إحساسه وبين ما وقع التفكير فيه هو مصالحة للفكر مع نفسه.

 

اللحظة الرّابعة: الجميل هو ما يُعرف من دون مفهوم، بوصفه موضوع رضا ضروري

الفقرات: 22.21.20.19.18

 

موضوع اللحظة الرّابعة هو تحليل الضرورة المحتواة في حكم الذوق. هذه الضرورة التي نظهرها في الرضا الجمالي تحيلنا على "الحس العام".

1- كيفية حكم الذوق

بعد النوع  la qualitéوالكمّ  la quantité والعلاقة la relation تأتي الكيفية la modalité. الكيفية هي الوظيفة المنطقية الرّابعة التي تحدّد "علاقة الحكم كلّه بملكة المعرفة، أي "الطريقة التي تثبت أو تنفي حكما ما". وهو أمر لا يعلّمني شيئا عن الموضوع نفسه ويقتصر فقط على الحكم نفسه. الحكم يمكن أن يكون إشكاليا (ما أؤكّده ممكن) أو تقريريا (ما أؤكّده واقع) أو هو قطعي، برهاني، يقيني (ما أؤكّده هو ضروري). إذا بدا لي أن الملائم هو سبب فعلي للرضا فإن الجميل بالمقابل يمنحني بالضرورة الرّضا. إذا كان الشيء جميلا حقّا، وجب أن أشعر تجاهه بالرّضا وإلاّ فإنّني لن أستطيع أن أقول إنّه جميل. وبالفعل فلأنّه يرضيني بشكل نزيه، يعتبر الشيء جميلا (كما ورد في اللحظة الأولى).

2- الرّضا الجمالي نموذجي ومشروط

لكن أي نوع من الضرورة هي ضرورة الرّضا التي يمدّني بها الجميل؟

في الرّياضيات تكمن الضرورة في الانتقال المنطقي من قضية إلى أخرى وفي الأخلاق الضرورة هي الواجب الذي ينحدر من تمثّلي له والذي يفرض نفسه علي دون قيد أو شرط (وهو ما يسمّيه كانط الأمر المطلق  l’impératif catégorique). بالمقابل فإن الضرورة في حكم الذوق هي فقط نموذجية (§18). ولنذكر بأن أحكام الذوق مفكّر فيها أي أن الفكرة تذهب من تمثّل جزئي إلى القاعدة التي تنطبق عليها. ومع ذلك لا أملك قاعدة معطاة مسبّقا أطبّقها على تمثّل من هذا النوع (ولو حصل ذلك لكانت هذه القاعدة معرفة للجميل منظور إليه في حدّ ذاته بمعزل عن شواهده الخاصّة)

إن الضرورة التي أنسبها للرّضا الذي يولّده الشيء الجميل ليست مستنتجة من معرفة مسبّقة للجمال. فما أشعر به (رضا أشعر به كضروري) هو مثال من قاعدة ليست معطاة والتي لا تتأكّد إلاّ بموافقة الجميع على حكمي. تبدو لي هذه الضرورة كإلزام وحكمي هو مثال على ذلك. هذه الضرورة ليست مستنتجة من مفهوم ولا أستطيع أن أعرف مسبّقا إذا كان الآخرون سيشعرون بها. ولكن على أيّ شيء أؤسس هذا الانتظار؟ وإن لم يكن مؤسسا على مفهوم فهل هو مؤسس على التجربة؟ إن التجربة ليست سوى اقتران متواصل للإدراكات، فهي تعلن ما هو كائن لا ما يجب أن يكون. فهي تقدّم لي الوقائع ومعطيات وليس ضمانا فعليا على ما يجب أن يحصل. وإذا كان كلّ من أعرفهم مثلي، فهذا لا يبرهن لي على أن كلّ حكم جديد يجب أن يتّفق مع حكمي ضرورة. لأنّ التجربة غير مؤسسة على مفهوم أوّلا ولأنه من المستحيل البرهنة عليها بالتجربة ثانيا، فإنّ الضرورة الجمالية هي ضرورة مشروطة أي أنّها ترتكز على افتراض سابق أو على مسلّمة.

3- الحسّ العام

إذا بدا لي الرّضا ضروريا، فذلك يعود إلى الشعور الذي ينتابني (وفقا لتعريف الحكم الجمالي في اللحظة الأولى)، و إنّ رأيت أن الآخرين يجب أن يشعروا بنفس الرّضا الذي أشعر به، فذلك لأنّي أسلّم أن شعوري مستمدّ من طريقة شعور هي مشتركة لنا جميعا والتي يسمّيها كانط "الحسّ العام" (§20). في هذه الحالة إن كنت أحسنت تأويل شعوري الخاصّ فإنّه يحقّ لي انتظار قبول الآخرين. هذا "الحسّ العام" ليس عضو إدراك إضافي. فأنا بعينيَّ وأذنيَّ  وعموما بحواسي العادية أدرك الموضوع الذي أصفه بالجميل. وهذا "الحسّ العام" ليس أيضا ملكة معرفة. وليس ذكاءً عامّا أو مشتركا أو ذهنا عامّا. على نقيض الحكم المنطقي الذي هو حكم معرفة، فإنّ الحكم الجمالي هو برمّته مؤسس على الشعور الذي أشعر به. في التقييمات الأخلاقية اليومية لا يوجد بصفة عامّة سوى وعي غامض بالمبادئ التي نحكم بها، ولكن هذه المبادئ موجودة وهي المبادئ التي يسعى الفيلسوف لتقديم عرض منسجم لها. في الحكم الجمالي لا وجود لمبادئ عقلية يمكن إدراكها ، لا وجود إلاّ للشعور بحالتي قبالة تمثّل ما.

4- الحسّ العام ضدّ الريبية

هل أنا مجبر على هذا الافتراض الذي استلزمته أحكامي الذوقية؟ حتّى يطرح مسألة هذا الافتراض سيسعى كانط لربط مصير هذا الحسّ العام إلى المعرفة في صراع ضدّ الريبية في هذه اللحظة الرّابعة مثلما وقع نقد الدغمائية في اللحظة الأولى. إن رفض قبول هذا الحسّ العام معناه رفض إمكانية المعرفة مثلما يفعله الريبيون.

بالنسبة للريبية ليست المعارف سوى نشاط ذاتي محض لملكات الإدراك. يعني أنّها لا تتطابق مع ما يوجد في الأشياء. بالنسبة لكانط الأمر على خلاف ذلك تماما، تتنزّل المعرفة في نظره كواقعة لا تعرف شروط إمكانها وحدودها إلا ّبعد وجودها.

حسب التعريف التقليدي للحقيقة، المعرفة الحقيقية هي التي تتطابق مع موضوعها هي التي لها قاسم مشترك معه. ولكن ما للمعرفة من قاسم مشترك بالموضوع، مستقلّ عنّي ويجب أن يكون قابلا للتبليغ إلى أيّ إنسان (كما هو الحال في التدريس حيث يحصل تبليغ المعارف). ولكن إذا كانت المعرفة يحب أن تكون قابلة للتبليغ على مستوى إنساني، فالأحرى أن نقول كذلك إن الحالة الذهنية التي هي شرط كلّ معرفة مكتسبة يجب أن تكون قابلة للتبليغ هي أيضا. هذه الحالة الذهنية تتمثّل في العلاقة بين الخيال الذي يتناول المحسوس والذهن الذي يوحّد الإدراكات. هذه العلاقة متغيّرة حسب المعارف. في الحكم الجمالي نحن أمام العلاقة الأكثر انفتاحا، الأكثر انسجاما والأكثر حرّية، فيها لا تنتج هذه الملكات معرفة محدّدة بل تنعم إن صحّ التعبير بنفسها وباتّفاقها في ما بينها. وهذا ما بيّنه كانط في تحليل اللحظة الثانية. ولكن الحسّ العام الذي نربط به –بفرضية ضرورية- شعورنا في حكم الذوق ليس شيئا آخر غير النتيجة المترتّبة عن النشاط الحرّ لملكاتنا المعرفية. وبناء على ذلك إذا قبلنا أن هناك معارف أصيلة أي ما نعرفه عن الأشياء يمكن تداوله على مستوى إنساني، وجب أن نقبل أن هناك حسّا عامّا أي أن شروط المعرفة يجب هي أيضا أن يقع تبليغها. يرى كانط أن هذا التوافق بين الخيال والذهن لا يمكن أن يحدّد إلاّ بشعور. وهو تأكيد هام لأنّه يدعّم الحكم الجمالي (من حيث هو مؤسس على شعور). في كلّ حكم (حكم جمالي أو حكم معرفة) هناك اتفاق بين الخيال والذهن. وبفضل هذا الاتفاق أعتقد أنّي قد أصبت في الحكم، أي أنّني أصبت في وضع الحالة الخاصّة (التي يقدّمها الخيال) تحت قاعدة عامّة يوفّرها الذهن. كيف سألاحظ حصول هذا الاتفاق؟

فإذا كان الأمر بواسطة معرفة، فهذا يعني أن الحكم هو وضع حالة خاصّة تحت قاعدة بفضل قاعدة تطبيق. ولكن عندئذ يجب الحكم على حسن تطبيق هذه القاعدة، ملاحظة اتفاق جديد وهكذا إلى ما لا نهاية... كلّ حكم سيصبح مستحيلا ولن نحكم من لاشيء. ومع ذلك في الواقع نحكم. فالاتفاق بين الخيال والذهن ليس محدّدا من قبل معرفة ولكن بشعور. نحن نشعر أن هناك اتفاقا. اتفاق حصل. القدرة على الحكم هو هبة، هو فنّ نستمدّه من طبيعتنا ولا يمكن أن يُعلّم أو يُنقل كجملة من القواعد.

5- ملكة معطاة أو ملكة للاكتساب؟

اللحظة الرّابعة تنتهي بالسؤال التالي: هل أن الحسّ العالم الذي نفترض وجوده، هل له وجود فعلي أم هو ملكة للاكتساب؟ الإجابة عن هذا السؤال ليست في القسم الأوّل من الكتاب ولكن في الفقرة 59. الحسّ العام الذي نفترض وجوده الفعلي  هو أمر مثالي من العقل من أجل غايات أخلاقية عليا. في تقييماتنا الجمالية تتدخّل أحيانا مصطلحات مرجعها الأصلي هو الأخلاق. فنقول مثلا عن منظر جميل أنّه مريح. ذلك أن الذهن يضع مماثلة بين الجميل والخير الأخلاقي أي تشابها ليس بين الأشياء نفسها ولكن بين قواعد التفكير نفسها على الأشياء. "الجميل هو رمز الخير". الجميل ليس صورة للخير ولكن تجسيد غير مباشر له (رمز). في التجربة الجمالية ترتفع النفس أعلى من مجرّد قدرة على اللذّة بواسطة انطباعات الحواس. "إن الذوق يجعل ممكنا، دون قفزة فجئية، الانتقال من الحسن الحسّي إلى المصلحة الأخلاقية" إن فكرة الحسّ العام هي ضرورة للعقل وإليها نرجع أحكام الذوق.

 

ملاحظة عامّة حول الفصل الأوّل من التحليل (ص148)

الشرعية الحرّة للخيال

 

في هذه الملاحظة يعود كانط إلى مفهوم الذوق لكي يستخلص خصائصه الأساسية والتي يسمّيها الشرعية الحرّة للخيال. الأمثلة التي ذكرها كانط تظهر أنّه مطّلع على حلبة النقاشات في فلسفة الجمال في عصره.

إن النقطة التي يرتكز عليها كانط ليعبّر عن عدم موافقته نقّاد الذوق هي مسألة معرفة هل أن التناسق هو شرط الجمال. من دون شكّ أن شكلا هندسيّا متناسقا يمنحنا رضا أكثر من شكل هندسي غير متناسق، ذلك أن تناسقه يجعله أقدر على تقديم مفهوم وبهذا المعنى التناسق هو هدف نسعى إليه من أجل المعرفة. فالرّضا الذي نشعر به هو من قبيل "استحسان معطى يعود لحلّ مشكل ما". فهو مرتبط بغاية رغم أنّنا في أغلب الأحيان لا ندرك هذه الغاية. الرّضا الجمالي يرتكز على نقيض ذلك، على غياب العوائق لغائية من دون غاية. لهذا السبب ينفر الذوق من التلّف من دون أن يعادي التناسق، إنّه يهرب من العوائق التي تعيق الغايات وتجعل الرّضا مشروطا في حين أن رضاءه خالص. إنّه يفضّل "ذوق الحدائق الأنقليزية، ذوق الباروكات في البناءات"، وهي أمور تجعل الخيال حرّا.

في أحكام الذوق يتفوّق الخيال على الذهن بينما في أحكام المعرفة يفرض الذهن قوانينه على الخيال ويقيّده. هنا في هذه الحالة الذهن في خدمة الخيال، فهو يوفّر له إطار "قانونية من دون قوانين" والتي وجدناها في الغائية من دون غاية.

 

خاتـمـــــــــــــــــــة

 

لذّة نزيهة، عمومية غير موضوعية، غائية من دون غاية، أخيرا ضرورة من دون مفهوم تلك هي المفارقات الأربعة التي تشكّل مفهوم الجمال (المفارقة le paradoxe: هي إثبات لقول يتناقض مع الرّأي الشائع في موضوع ما). الجمال الذي هو ليس خاصّية في الشيء وهو لا يعرف، ومع ذلك ليس عشوائيا، ولكن يؤكد ذاته عبر تفكير الذهن في نفسه في مواجهة بعض الأشياء. الموضوع في حدّ ذاته وبمعزل عن الذهن ليس جميلا. والذهن في حدّ ذاته وبمعزل عن الموضوع لا يجد الجمال. فالجمال ينشأ من تلاقيهما طالما أنّه ليس مملى من الذهن ولا مفروضا من الموضوع. ولكن هذا الالتقاء حرّ ونزيه. من خلال هذا الالتقاء الذي هو التأمّل يكتشف الذهن نفسه في التوافق الحرّ بين الخيال والذكاء ويغذّي لذّته الصافية من خلال هذا النشاط الذي يدهشه كما يدهش العالم. خارج كلّ الضغوطات ينصرف الذهن للتأمّل وكأنّه ما وُجد إلاّ لهذه النشاط. إن الشعور بالجمال يسعى أن يكون مشتركا، فهو يتضاعف في كلّ تواصل عفوي مع الآخر.

تفكير كانط معقّد ولكن ليس فيه تكلّف التعقيد. فهو يرجع للتجربة الجمالية: شمّ وردة، سماع زقزقة عصفور، مشاهدة فراشة... يرجع لها بعدها العفوي والأساسي ويكشف شروط اللذّة الخالصة التي يمدّنا بها الجمال.   

    

 

 

Tags

Enregistrer un commentaire

0Commentaires

Please Select Embedded Mode To show the Comment System.*

To Top