الدراسة 5. "رسالة في إصلاح العقل" سبينوزا

ECRITS
0
 حسن الولهازي (تونس)


دراسة تحليلية لقسم من كتاب سبينوزا "رسالة في إصلاح العقل"

ترجمة جلال الدين سعيد نشر دار الجنوب للنشر. تونس


مخطط الكتاب

ا- من الأخلاق إلى التفكير: من §1 §31

I- الخير الحقيقي للإنسان هو في اِكتساب طبيعة متفوّقة تتمثّل في اِتحاد الفكر بالطبيعة كلّها §5.4.3.2.1

 القواعد الأخلاقية الثلاثة التي يجب اِتّباعها لبلوغ هذا الخير الحقيقي.

تجنّب الاِصطدام مع المجتمع §6.

تقديم حفظ الصحّة على الاِستمتاع بالملذّات §7.

الملكية وسيلة وليست غاية §8.

II- فحص ضروب الإدراك المناسبة لكمالنا. من§9 §25

مقدّمة §9 و 10

1) ضروب الإدراك

أ- إدراك مكتسب بالسّماع §11

ب-إدراك مكتسب بالتجربة § 12

ج- المعرفة الاِستدلالية §13

د- المعرفة اليقينية §14

أمثلة توضيحية § 15 و 16

حشو (أي غير ضروري) § 21.20.19.18.17

2) نقد ضروب الإدراك

أ- نقد الإدراك المكتسب بالسّماع §22

ب- نقد المعرفة المتأتية عن طريق التجربة §23

ج- نقد المعرفة الاِستدلالية §24

د- مدح المعرفة الحقيقية §25

III- المنهج الضروري لمعرفة الأشياء التي علينا معرفتها. من §26 §31   

اا-اللوازم الأريعة للمنهح من §32 §72

اللوازم الربعة للمنهج §32

اللازم الأوّل

1- تمييز الفكرة الصحيحة عن ضروب الإدراك الأخرى

2- تمييز الفكرة الصحيحة عن الفكرة المصطنعة من§34 §39

3- تمييز الفكرة الصحيحة عن الفكرة الخاطئة §42.41.40

4- تمييز الفكرة الصحيحة عن الفكرة المشكوك فيها §43

5- حول الذاكرة والنسيان §44

6- في الفرق بين الذهن والخيال §45 §48

اللازم الثاني

نظرية سبينوزا في التعريف §49 §56

اللازم الثالث من §57  §60

ااا- كيف بجب أن نبدأ وكيف يجب أن ننتهي؟ من §61  §72

- لا يمكن أن نعرف الكائن الأكمل من غير أن نعرف الذهن أوّلا. §61

- التحديد الممكن للذهن يكون بالنظر لخصائصه لا بالنظر لجوهره. (وهو تعريف يناقض نظرية التعريف المطروحة في الفقرات 49 56)

- محاولة لتعريف خبري للذهن. من §62 §72

 

مـقـدّمـــــــــــــــــة

يبدو أن كتاب "رسالة في إصلاح العقل" هو تسجيل لنقطة تحوّل في فكر سبينوزا. هو تعبير عن سيرة ذاتية فلسفية فاصلة بين مرحلتين في مسار التطوّر الفكري للكاتب. والدليل على هذا التحوّل هو أن الكاتب ينقد مظاهر الحياة العامّية المتكالبة على الثراء والجاه واللّذة وفي نفس الوقت يبدو مصمّما على تحقيق حياة جديدة لها هدفها ونظامها. "عقدت العزم أخيرا على البحث" (ص27س4). يريد سبينوزا في هذه الحياة الجديدة التي يحلم بها أن يكتسب طبيعة بشرية متفوّقة، ذلك هو الخير العظيم. فما هو السبيل لهذا الخير العظيم؟ أنّه إِصلاح العقل. إن تحصيل المعرفة الصحيحة المؤدية للكمال لا يكون إلاّ بتطهير العقل من أدران الحياة اليومية.

يبدو أن كتابة هذا الكتاب رافقت التحوّل الفكري عند سبينوزا وكأنّه كان سيسّجل تطوّره الفكري تدريجيّا، ولم يراجع الكتاب لمّا اِمتلك نسقه فتركه هكذا بدون مراجعة بما يحويه من اِضطراب منهجي وتداخل بين الأفكار مع حاجة بعض الأفكار للتدقيق وحاجة أخرى للتعديل. "رسالة في إصلاح العقل" هو عبارة عن قارب مرّ به سبينوزا من ضفّة إلى أخرى، فلمّا بلغها قفز من القارب وتركه على حالته دون أن يلتفت إليه. والدليل على ذلك:

أن مضمونه غير منظّم، ناهيك أن تخطيط الكتاب طرحه سبينوزا في الفقرة32.

إنّ هذا الكتاب كان المقدّمة لكتاب "الأخلاق" فلمّا اِمتلك سبينوزا نسقه ترك المقدّمة على علاّتها وكأنّ هذا الكتاب كان المخبر الذي سطّر الخطوط العريضة للكتاب الرّئيسي لسبينوزا وهو كتاب "الأخلاق".

أن سبينوزا اِنقطع فجأة عن مواصلة تأليف الكتاب وكأنّه  كان يكتبه لنفسه كمذكّرات ولا ينوي نشره.

تـعـلـيـــــق على عنوان الكتاب

"رسالة في إصلاح العقل"، وهل يصلح العقل؟ وإذا كان هذا ممكنا فما هو المقصود بإصلاح العقل؟ إذا فهمنا العقل على أنّه أداة معرفة وخزّان معرفة أمكننا أن نحدّد معنى الإصلاح هنا.

إذا نظرنا للعقل من حيث هو أداة معرفة قلنا إن المقصود بالإصلاح هو التقويم والتوجيه حتّى نحسن اِستخدام هذه الآلة فنتجنّب الخطأ ونعرف الحقيقة.

وإذا نظرنا للعقل من حيث هو أداة معرفة قلنا إن المقصود بالإصلاح هو تطهير العقل من الأحكام المسبّقة والأخطاء الشائعة والقيم الزائفة التي اِكتسبها من المجتمع والتي جعلته ينحرف عن الكمال ويبتعد عن الحقيقة. " إلاّ أنّه لا بدّ قبل كلّ شيء من التفكير في وسيلة لشفاء العقل وتطهيره قدر الإمكان حتّى يوفّق في إدراك الأمور على أحسن وجه ودونما خطإ" (ص31س1). وبتعبير آخر، العقل المتحدّث عنه هنا ليس العقل قبل الاِستعمال أي ذلك العقل الفطري الطبيعي، وإنّما ذلك العقل الذي شُوّه بفعل الاِكتساب ووجب تنقيته وتوجيهه. 

الدراســــة التحليليـــــة

الفـقــــــــــرة 1

إلى حدود تأليف هذا الكتاب اِستخلص سبينوزا من تجربته الحياتية أمرين:

أ) أن أكثر صروف الدهر (الأحداث، الأعمال، الطموحات، النجاحات...) هي في معظمها تافهة.

ب)أن الأمور التي نخافها هي في الحقيقة إمّا لا تخيف أو لا تخيف كلّ الناس بنفس الدرجة. مثال ذلك أن هناك من ترتعد فرائصه عند سماع كلمة "إلحاد" وهناك من يراه موضوعا للتندّر. كذلك مسألة الموت فالناس لا يخافون من الموت بنفس الدرجة.

 واضح من الأمرين السابقين أن مطلب أغلب النّاس في حياتهم إمّا أن يكون تافها بطبيعته أو هو موضوع اختلاف بين النّاس فهناك من يعظّمه وهناك من يتفّهه. فما هو المطلوب إذا؟

 المطلوب هو: خير حقيقي (ص27س5). وتعني لفظة "حقيقي" هنا أن ضرورة هذا الخير لا تتوقّف عليّ أو على غيري. فهو بالفعل خير بقطع النظر عن موقف النّاس منه. وإلى جانب كونه حقيقي لا بدّ أن يكون هذا الخير قابلا للتوصيل، أي من الممكن التوصّل إليه وبلوغه من طرفي أو من طرف غيري. فإذا طلبت الألوهية أو أن أكون ملاكا من الملائكة فيجب أن أعلم منذ الآن أن هذا المطلب يستحيل تحقيقه.

 يتّصف هذا الخير الحقيقي الذي يروم سبينوزا تحقيقه بثلاث صفات:

1 هو خير حقيقي وليس هو خير لأنّي أراه كذلك.

2 هو خير من الممكن بلوغه.

3 هو خير "تزهد النفس فيما عداه ولا تتأثّر بسواه" (ص27س6).

إذا هناك هدم لحياة قديمة ومشروع بناء حياة جديدة. ولكن ألا يشوب العبثُ هذا الانقلاب أو التحوّل؟ هل من السّهل على الفرد أن يغيّر نمط حياته والحال أنّه يحيا في مجتمع له نظامه وعاداته وتقاليده؟ ثمّ على افتراض أن الشخص الذي يروم التمرّد على ما هو سائد وجد الشجاعة الكافية للانطلاق في تحقيق مشروعه، فهل سينجح في ذلك؟ ألا يكون مشروعه بمثابة مغامرة غير محمودة العواقب؟ أليس "من العبث أن يتنازل المرء عن الثابت (أي المنافع التي يجنيها حاليا من الثراء والمجد...) في سبيل ما لم يثبت بعد" (ص27س8).

فرضيتان تطرحان في هذا المشروع:

الأولى: إذا تخلّيت حاليا عن الثراء والمجد وما يتبع ذلك من منافع، وبحثت بعد ذلك عن الخير الحقيقي، وظهر لي بعد البحث والتقصّي أن هذا الخير الحقيقي هو الثراء والمجد، فإنّني بذلك أكون قد تخلّيت عمّا لا يجب التخلّي عنه وأكون قد أفسدت حياتي عن جهل وتهوّر.

الثانية: وإذا لم أتخلّ حاليا عن الثراء والمجد وكلّ نمط حياتي الحالي فقد يظهر لي بعد البحث أنّني تمسّكت بما كان يجب أن أزدريه.

ها نحن أمام مصيبة، أمام وضعية مقلقة!!! "وساورني القلق" (ص27 س12).

ولاح لسبينوزا الحلّ اللاّزم لهذه المصيبة عملا بالمثل "لا يجوع الذئب ولا يشتكي الراعي" فما هو هذا الحلّ؟ "أؤسّس حياة جديدة... دون أن أغيّر من نظام حياتي القديم" (ص27 س13). الحلّ الذي اهتدى إليه الكاتب هو في التوفيق بين ما هو عليه وما يجب أن يكون عليه. التوفيق بين الموجود والمنشود. فهل نجح في ذلك؟ "حاولت ذلك طويلا دون جدوى" (ص27 س14).

 بعد هذه الجملة مباشرة، ومن خلال ما سيلحق نكتشف أن الكاتب قرّر التخلّي عن حياته المألوفة والشروع في البحث عمّا سمّاه هو "الخير الأعظم" (ص27 س16)، وقد سمّاه سابقا "الخير الحقيقي". فما هو منهج الكاتب في البحث عن الخير الأعظم؟

 منهجه في ذلك هو دراسة وتحليل وتقييم ما اعتبره الناس "الخير الأعظم". اختلف النّاس في تحديد هذا الخير ومع ذلك يمكن حصر ما يرونه خيرا في ثلاثة مطالب وهي : "الثراء والمجد واللّذة الحسّية" (ص27 س16).  فما هي حقيقة هذه المطالب التي اعتبرها النّاس إلى حدّ اليوم خيرات عظمى؟

1) بخصوص اللّذة الحسّية: باعتبار أن الإنسان يجد راحته مع هذه اللذّة فإنّه يطلب دائما الاستزادة منها فلا يتحوّل عنها ولا يطلب غيرها، فيصبح عبدا لها ومن الغريب أن هذه المتعة المطلوبة بشدّة يتلوها "حزن شديد يربك الفكر ويضعفه ويثبّطه" (ص27 س19).

2) بخصوص المجد: المجد هو الإشعاع في المجتمع، هو المكانة الاجتماعية المرموقة كمكانة الوالي أو الحاكم أو القائد... وكلّ شخص يطلب المجد يصبح سجين هذا المطلب وقد يرتكب الشرور في سبيل المحافظة على مجده. علاوة على ذلك فإنّ الفوز بالمجد "يقتضي من المرء أن يوجّه حياته وفقا لما يراه النّاس" (ص28 س7). وبذلك يتبع السخيف ويرضي التافه ويجامل المتهوّر.

3) بخصوص الثراء: إذا عُدّ الثراء خيرا أعظم، كان كارثة على من يطلبه، لأنّ الثراء من المفروض أن يكون وسيلة لا غاية. وإذا تحوّل إلى غاية، يتحوّل الثريّ إلى كلب مسعور يصعب الاقتراب منه.

 عندما نقارن بين هذه المطالب الثلاثة، نكتشف أنها تشترك جميعا في خاصّية واحدة هي استعباد صاحبها. ولكن ما يفرّق بين اللذّة الحسّية من جهة والمجد والثراء من جهة ثانية هو أن الاستمتاع باللّذة الحسّية يعقبه الندم، بينما عطش الإنسان للثروة والمجد عطش لا يُروي. فكلما توسّعت أملاك البخيل قال: هل من مزيد؟ وكلّما وقع الترفيع من مكانة الوضيع قال: هل من مزيد؟

الفـقــــــــــرة 2

فهل هناك مجال بعد هذا التقييم للتمسّك بهذه المطالب؟ هذه المطالب التي عدّاه بعض النّاس خيرات عظمى فظهرت شرورا عظمى؟

الواقع أنّني إذا تخلّيت عنها "أكون قد تخلّيت عن خير غير ثابت بطبعه مثلما يستخلص بوضوح من الملاحظات السابقة" (ص28س14).

فإذا تأكّدت أنّني سأتخلّى عن خير غير ثابت بطبعه (أي مضارّه واضحة للعيان)  فكيف أعرف أن ما أبحث عنه هو خير ثابت بطبعه (أي خيريّته متأصّلة فيه)؟

 الواقع أننا لا نستطيع أن نحكم على ما سنبحث عنه بأنّه خير مسبّقا وقبل البحث عنه. ولكن ما نحن متأكدون منه هو أنّنا لن نتمسّك بعد البحث إلا بما هو خير، وإذا اكتشفنا أن ما طلبناه ظهر شرّا فإنّنا نطرحه جانبا ونبحث عن غيره، بحيث نستطيع أن نقول بناء على هذا الأساس أنّه لن يكون لنا إلا الخير.

 ها نحن وقفنا على نتيجة هي أنّني "سأتنازل عن شرّ ثابت من أجل خير ثابت" (ص28س17). الشرّ الثابت الذي سأتنازل عنه هو الثراء والمجد واللذّة الحسّية. والخير الثابت الذي أطلبه وإن كنت لا أعرفه، فإنّني لن أقبله إلاّ كخير.

آخر الفقرة الثانية بداية من قول الكاتب "لقد رأيت نفسي حقّا في خطر كبير..."(ص28 س17) إلى آخر الفقرة هي من قبيل الحشو ولا قيمة منهجية لها. في آخر هذه الفقرة يشبّه سبينوزا وضعه بوضع المريض المصاب بداء قاتل وملهوف على العلاج.

الفـقــــــــــرة 3

الفقرة الثالثة يمكن أن تلغى بدون أن يحدث اضطراب في الكتاب. الكاتب يكرّر ما قاله سابقا. عاد إلى ما يعتبره النّاس خيرات وهي الثراء والمجد واللّذة الحسّية. ثمّ يطرح السؤال التالي: "بأيّ شيء تربطنا عاطفة الحبّ؟" (ص29 س8). بتعبير آخر أيّ نوع من الأشياء يدفعنا إليه الحبّ؟ أيّ شيء نحبّه رغما عنّا؟ أي شيء نجد أنفسنا مدفوعين لطلبه؟

 طبعا الشيء المكروه ( مثل السمّ، الضرب، السجن، المرض، الفقر، الجهل...) لن تنشأ حوله خصومة ولن نحسد من يحوزه أو يتّصف به. أمّا الشيء المحبوب فهو مطلوب. وهو يتمحور عند العوام حول الثراء والمجد واللّذة الحسّية، أمّا عند الفلاسفة والعظماء فهو عادة ما يكون "شيئا أزليا لامتناهيا... سيملأ أنفسنا بهجة خالصة من كلّ حزن" (ص29 س13).

فهل بعد هذا النقد اللاّذع لما يراه العوام خيرا وبعد هذا التمجيد للخير الأعظم المأمول، هل أنا  في مستوى التحوّل؟ يجيب الكاتب إنّني لم أستطع بعد أن أتخلّى تماما عن الخيرات المادّية وعن الملذّات والمجد". (ص29 س16)

الفـقــــــــــرة 4

   في إطار هذه الفوضى الفكرية أو الصراع الدّاخلي بين قوّى تشدّ الكاتب إلى حياته الماضية وقوّى تدفعه إلى تأسيس حياة جديدة، هناك عاملان كانا في صالح التحوّل:

1) اكتشف الكاتب أنّه بقدر ما يفكّر في ما يعتزم تحقيقه يشعر بالرّاحة. وهذا يدلّ على أنّ رغبته في إنجاز مشروعه هي رغبة  صادقة. وممّا يشعره بالاطمئنان هو أنه تبيّن له أن الميولات الطبيعية للإنسان مثل حبّ الحياة والجنس... ليست ميولات جارفة للحدّ الذي يمنع الإنسان من التحكّم فيها أو "علاجها" كما قال الكاتب. فالإنسان وإن كان يشترك مع الحيوان في الغرائز إلاّ أنّه ليس حيوانا.

2) وما بعث في الكاتب الحماس للتحوّل أيضا، هو تغيّر نظرته لما يعتبره العوام الخير الأعظم. يقول الكاتب "اتضح لي أنّه لا مضرّة في الكسب واللذّة والمجد ما لم تكن رغبتي في هذه الأشياء لذاتها وطالما نظرت إليها على أنّها وسائل في خدمة غاية أخرى" (ص29 س22). إذا فالمشكل ليس في الكسب واللذّة والمجد وإنّما في نظرتنا إلى هذه الأمور: هل هي غايات أم وسائل؟ فإذا اعتبرناها غايات كما فعل العوام كانت كارثة، وإذا اعتبرناها وسائل كما فعل سبينوزا فلن تمنع رقيّنا نحو حياة أفضل بل بالعكس "ستساعد كثيرا على بلوغ الهدف المرسوم" (ص30 س2).

الفـقــــــــــرة   5

 عجيبة هي هذه الفقرة. عجيبة لأنّ بعد الذي قيل من المفروض أن يطرح سبينوزا مشروعه بوضوح وبشكل منظّم، فإذا به يطرح أفكاره في شكل استطراد. فمن فكرة نسبية المفاهيم انتقل إلى مثال الكمال والنقص ومن هذه الفكرة عرّج على نظام الطبيعة. وهذه الفكرة دفعنه للحديث عن الطبيعة البشرية. وكأنّ هذه الأفكار المنتظرة بنيت على توارد خواطر. ورغم ذلك سنراعي النظام الذي طرح به سبينوزا أفكاره.

إن ما يطلبه سبينوزا كما صرّح بذلك هو بنفسه سابقا، هو الخير الحقّ. وهذا الوصف "الحق" يسوق حوله سبينوزا إشارة. فمعروف أن المقصود بالخير الحقّ ليس هو الخير كما أراه أنا أو كما يراه غيري ولكنّه الخير كما هو في ذاته. هو الخير بقطع النظر عن موقف الإنسان منه. فما يقصده سبينوزا بالمعاني الحقّة، هو تقريبا تلك المعاني كما تحدّث عنها أفلاطون في عالم المثل والتي تعدّ مرجعا للحكم على تلك التصوّرات الإنسانية بالصواب أو الخطأ. ذلك أنّنا نستخدم ألفاظا من قبيل الخير الحقّ والعدل الحقّ... ولكن الواقع أنّ هذه الألفاظ لا تتطابق مع ما تشير إليه. فالإنسان لم يرق بعد إلى معرفة هذه المعاني كما هي في ذاتها (في عالم المثل حسب أفلاطون) أي معرفة حقيقيّة، لذلك فإن المعنى الذي نطلقه على هذه المفاهيم هو معنى نسبي أي منسوب إلينا رغم أنّنا على مستوى اللغة نقول عنه أنّه "الحقّ".

وما قلناه عن أحكامنا حول المعاني أو الأفكار أو المفاهيم (أي أنّها نسبية) نقوله أيضا حول الأشياء المادّية. فأحكام من قبيل كامل وناقص وصغير وكبير وطويل وقصير هي أحكام يتّخذ الإنسان فيها نفسه مرجعا. يقول الإنسان عن الفيل أنّه ضخم وعن الفار أنّه صغير الحجم، وواضح أن هذه الأحكام يصدرها الإنسان بالنظر لنفسه لا بالنظر للحيوان الموصوف. والدليل على ذلك أن الفأر ضخم قياسا على النملة. فإذا نظرنا للظواهر الطبيعية مستبعدين حكم الإنسان عليها، نجدها منتظمة في سلسلة من الأسباب والنتائج وليس فيها لا ضخم ولا صغير ولا جميل ولا قبيح ولا كامل ولا ناقص. كلّ شيء ضخم وصغير في عين نفسه. كلّ شيء مساو لنفسه. الحكم الوحيد المسموح به في هذا النظام هو أن يكون كلّ شيء مساو لنفسه. الحكم الوحيد المسموح به في هذا النظام هو أن كلّ شيء هو كذلك لأنّه يجب أن يكون كذلك. "كلّ ما يحدث إنّما يحدث وفق نظام أزلي ووفق قوانين طبيعية محدّدة" ص30 س7).

 ذا ما يجب على الإنسان أن يفعل وقد أدرك أن الأحكام التي يصدرها على المعاني والأشياء المادية هي أحكام خاطئة. وخطؤه ليس خطأ أفراد وإنّما هو خطأ يعود إلى طبيعة الإنسان المحدودة. إنّ ما يتوجّب على الإنسان فعله واضح: عليه أن يتجاوز محدودية طبيعته فهو "يتخيّل طبيعة بشرية تفوقه قوّة بكثير ولا يرى أيّ مانع لاكتساب طبيعة تماثلها". هل هذا الكمال المبحوث عنه في متناول الإنسان في نظر سبينوزا؟ نعم هو في المتناول والدليل على ذلك "ولما كان الإنسان غير قادر في هذه الأثناء على إدراك النظام" (ص30 س8). فقوله "في هذه الأثناء" دليل على أن هذا العجز مؤقت وتجاوزه ممكن.

 إذا ليس أمام الإنسان والحالة هذه، غير بحث السبل التي تمكّنه من بلوغ الكمال الذي سيمكّنه من تجاوز الخطأ في الأحكام. يسمّى سبينوزا هذه السبل أو الوسائل التي ستساعده على تحقيق الكمال: الخير الحقيقي. يقول سبينوزا متحدّثا عن الإنسان "وجد نفسه مدفوعا إلى البحث عن وسائل تقوده إلى هذا الكمال، فسمّى خيرا حقيقيا كلّ ما ساعده على ذلك" (ص30 س10).

 لنفترض أن شخصا تحصّل على الخير الحقيقي واستخدمه في بلوغ الكمال أي طبيعة بشرية متفوّقة انكشفت أمامها أسرار الطبيعة. فهل كماله هو كامل بحق أم منقوص؟ الواقع أنّه كماله ناقص، فإذا ساعد غيره على اكتساب ما اكتسبه هو من كمال، بلغ الخير الأعظم أو ما يمكن أن نسمّيه الكمال الحقيقي. نلاحظ هنا النزعة الإنسانية في فلسفة سبينوزا. فحكمة بدون أخلاق هي حكمة ناقصة. من المهمّ أن ينقذ الحكيم نفسه من الجهل، ولكن الأهمّ من ذلك أن يساهم في إنقاذ غيره أيضا. يذكّرنا هذا الموقف بوقف أفلاطون في "أمثولة الكهف" حيث يعود السجين المتحرّر إلى الكهف لتحرير زملائه. فما عسى أن تكون هذه الطبيعة الإنسانية المتفوّقة التي بفضل اكتسابها نكون قد بلغنا الكمال؟

 يجيب سبينوزا "إنّها تتمثّل في معرفة إتّحاد الفكر بالطبيعة كلّها؟ l’union qu’a l’âme pensante avec la nature entière » يبدو أن من يطّلع على هذا التحديد للكمال لا يفهم كيف تعدُّ معرفة إتّحاد الفكر بالطبيعة كلّها، كمالا؟ وكيف ستخلق هذه المعرفة سعادة الإنسان وحرّيته؟

  إن المعرفة "غذاء روحي" تلبّي في الإنسان حاجاته الرّوحية، لكن الإنسان ليس روحا فقط فهو جسد أيضا له حاجات مادّية. فهل ستنقذه معرفة إتحاد الفكر بالطبيعة من الجوع والبرد والعطش وعموما من الظروف المادّية التعيسة؟

  إن من يعترض على سبينوزا بهذه الأسئلة لا يدرك أن هذه المعرفة هي معرفة نهائية تسبقها معارف أخرى تمهّد لها وتحلّ مشكل الحاجات المادية يقول سبينوزا (ولله درّه من قائل) "ويقتضي بلوغ هذه الغاية، معرفة الطبيعة بالقدر الكافي لاكتساب ما نصبو إليه من كمال طبيعتنا" (ص30 س18). من فروع معرفة الطبيعة يذكر سبينوزا على سبيل الذكر لا الحصر: علم الطبّ، علم الميكانيكا. وحتّى لا يسأل البعض لماذا لم يذكر سبينوزا الرياضيات والفيزياء والعلوم الأخرى يقول سبينوزا "إنّي أريد توجيه جميع العلوم نحو غاية واحدة وهدف واحد وهو بلوغ ذلك الكمال الإنساني الأعظم الذي تحدّثنا عنه" (ص31 س3).

  واضح إذا أن معرفة الطبيعة تسبق وتمهّد لمعرفة إتحاد الفكر بالطبيعة. وطالما أن سبينوزا يسمّي كلّ الوسائل التي تساعد على معرفة إتّحاد الفكر بالطبيعة بـ "الخير الحقيقي". فيمكن القول إن العلوم تدخل ضمن الخير الحقيقي.

 إذا العلوم وسيلة ومعرفة أوّلية لغاية أخرى هي معرفة إتحاد الفكر بالطبيعة. ولكن هذه العلوم يمكن اعتبارها غايات ولا بدّ لها هي بدورها من وسائل لتحقيقها. فهل اعتبرها سبينوزا كذلك؟

  بالفعل يعتبر سبينوزا أن لتحقيق مشروعه –بدءا باكتساب العلوم- لا بدّ أن يضع قواعد أخلاقية سلوكية يومية تعصمه من الوقوع في الزلل وتبعد عنه الشواغل التي يمكن أن تحيده عن هدفه.

  إذا لخّصنا المخطط الفكري  لسبينوزا نجد:

 لتجاوز الحكام النسبية وبلوغ الحكمة لا بدّ من اكتساب طبيعة بشرية متفوّقة ولحصولها لا بدّ من وسائل تمكّن من ذلك (الخير الحقيقي) وتدخل العلوم ضمن الخير الحقيقي (معرفة أوّلية قبل معرفة إتّحاد الفكر بالطبيعة) ولبلوغ هذه الوسائل لا بدّ من قواعد أخلاقية سلوكية يومية توجّه الباحث. فما هي هذه القواعد؟

الفـقــــــــــرة 6

القاعدة ألأخلاقيةالأولى: ملاطفة الآخرين. مضمون هذه القاعدة باختصار هو ملاطفة الآخرين وحتّى مجاملهم في الخطاب والمعاملة عموما. ولسائل أن يسأل ما علاقة هذه القاعدة بالبحث عن الكمال؟

  البحث عن الحقيقة يتطلّب راحة بال وهدوء نفسي، وإذا كانت للباحث علاقات متوتّرة مع أفراد محيطه الاجتماعي فإنّ ذلك يؤثر عليه سلبا لذلك عليه أن يتجنّب المشاحنات والاستفزازات والصراعات حتّى ولو إقتضى الأمر أن يجامل. يمكن القول أن هذه القاعدة تضبط علاقة الفرد بالمجتمع.

الفـــقــــــــــــــرة  7

القاعدة الأخلاقية الثانية حسب صياغة سبينوزا "أن نتمتّع بملذّات الدنيا في حدود ما يساعد على حفظ الصحّة" (ص31 س12). رغم أن حفظ الصحّة مسألة لا تحتاج لبرهان وهذا بالنسبة لكلّ إنسان إلاّ أنّها تتّخذ عند الباحث عن الحكمة أهمّية كبرى لسببين على الأقلّ:

1) ما جدوى هذه الحكمة إذا وصل إليها الباحث وقد أُنْهِك جسده واعتلّت صحّته، وهل يعدّ حكيما عندئذ؟

2) إنّ محافظة الفرد على وجوده مع ما يفرضه ذلك من مشقّة في تلبية الحاجيات المادّية، تظلّ –رغم مشروعيتها – في خدمة الجانب الحيواني في الإنسان. ولكن هو إنسان بالنظر للجانب الرّوحي فيه. وإذا غلّب الإنسان الجانب الحيواني فيه وكانت حياته تهدف إلى الاستمتاع بالغرائز، تقهقر إلى مرتبة الحيوان وظلّ همّه أن يوجد ويستمتع بالوجود ولكن الحكيم لا يهمّه أن يوجد ولكن يهمّه أن يوظّف وجوده لما هو أهمّ  وهو الكمال. فالجانب المادّي الغريزي يظلّ وسيلة لهدف أهمّ وأسمى هو الجانب الرّوحي. يمكن القول أن هذه القاعدة تضبط علاقة الفرد بغرائزه.

الفـقــــــــــرة 8

"ألاّ نرغب في المال ولا في أي خبر آخر إلا ّ بقدر ما يفيدنا في حفظ حياتنا وصحّتنا" (ص31 س13). تضبط هذه القاعدة الأخلاقية مسألة الملكية: ما هي الأشياء التي يجب أن نملكها وما هي حدود الملكية؟ وفي ماذا يجب أن تستخدم هذه الأشياء المملوكة؟ إذا تحوّلت الرّغبة في توسيع الممتلكات إلى هدف، كانت كارثة على صاحبها. يجب أن تظلّ الممتلكات وسيلة لهدف أسمى هو البحث عن الكمال.

  بهذه القواعد الأخلاقية ينقد سبينوزا ما يعتبره العوام الخير الحقيقي ويحمي نفسه من الانحدار نحو الرذيلة.

الفـقــــــــــرة 9

لا يجب أن يغيب عن أذهاننا أن الكمال الذي ينشده سبينوزا هو أوّلا وقبل كلّ شيء معرفة. ليس هو تغيير لظروف حياته أو استزادة في ملكيّته. هو بالتحديد "معرفة إتّحاد الفكر بالطبيعة كلّها" (ص30 س14). أي رغبة شخص في معرفة حجمه وقيمته في هذا الكون. إذا طالما أن الأمر كذلك فمع سبينوزا الحقّ عندما يقول إن أوّل ما سيقوم به عمليا في إنجاز مشروعه هو فحص ضروب الإدراك les modes de perception فما هي ضروب الإدراك هذه؟

الفـقــــــــــرة 10

"وبعد إمعان نظر، رأيت من الفضل أن أختصر هذه الضروب في أربعة" (ص31 س21).

الفـقــــــــــرة 11

الضرب الأوّل من المعرفة: المعرفة المستمدّة من المجتمع.

هي المعرفة التي يكتسبها الفرد من المجتمع وهي عموما تلك التي تتعلّق بالتاريخ (أي أحداث ماضية لم يشهدها السامع) أو قواعد أخلاقية سلوكية تهمّ التحيّة والأكل والزواج واللعب كالشطرنج مثلا.

في هذا التحديد لهذا الضرب من المعرفة يركّز سبينوزا على مصدر هذه المعرفة وهو المجتمع.

الفـقــــــــــرة 12

الضرب الثاني من المعرفة: المعرفة المكتسبة من التجربة المبهمة.

هي المعارف التي يكتسبها الإنسان في حياته اليومية. من لأمثلة على ذلك أنّه يعرف أنّه سيموت وأن الزيت وقود للنار وأن الحجرة المقذوفة تسقط على الأرض وأن الماء والهواء ضروريان للحياة وأن الماء يطفئ النار وأن الكلب ينبح والقط يموء والبقرة تثغو... وباختصار هي المعرفة العامية البسيطة.

الفـقــــــــــرة 13

الضرب الثالث من المعرفة: معرفة استنتاجية مبنية على المعرفة السابقة (المستمدّة من الحياة اليومية).

هذه المعرفة هي عبارة عن أحكام  وقوانين وقواعد مبنية على ما نعرف من الواقع. مثال ذلك: نعرف أنّّنا عندما نبتعد عن شيء ما، نراه صغير الحجم. فنستنتج أن الأشياء البعيدة التي نراها، هي بالضرورة أكبر ممّا نراها عليه.

طبعا هذه المعرفة هي معرفة استنتاجية توسّع معرفتنا باعتبارها لا تقف عند التجربة وإنّما تبني عليها معرفة أخرى. رغم أفضليّتها عن المعرفة السابقة إلا أن هذه المعرفة ليست جديرة بالثقة لأنّ الخيال يلعب فيها دورا كبيرا.

الفـقــــــــــرة 14

الضرب الرابع من المعرفة: معرفة الماهيات.

ماهية الشيء هي جوهره. يقول ابن سينا حول الجوهر " هو ما به يكون الشيء شيئا". هو ما يبقى من الشيء بعد أن نسقط عنه الأعراض وما هو ثانوي وما هو هامشي. فلو قلنا عن الإنسان إنّه حيوان يسير على اثنين، فإنّنا نكون قد عرّفناه بما هو هامشي فيه باعتبار أن هناك كائنات أخرى تسير على اثنين مثل الطيور. لكن لو قلنا إنّه "حيوان ناطق" (وتعريف أرسطو للإنسان) فإنّنا نكون قد عرّفناه بما هو جوهري فيه وبما يختصّ به.  في نظر ديكارت التعريف الجوهري للإنسان هو "جوهر مفكّر".

هذا النوع من المعرفة لا يكاد يختلف عمّا يقصده أفلاطون بمعرفة المثل. وهي معرفة لا يمتلكها إلا الفلاسفة. يقول سبينوزا حول هذه المعرفة "إنّنا ندرك الشيء بماهيته وحدها عندما نعرف بناءً على معرفتنا لشيء من الأشياء، ما معنى أن نعرف شيئا من الأشياء" (ص33 س4). عندما نتمكّن من معرفة شيء انطلاقا من هو، هو نفسه وليس بالسّماع عنه ولا بالاستنتاج، وإذا حصلت هذه وأسقطنا الأعراض عندئذ نكون تجاه معرفة يقينية جوهرية. مثال: لو أردت أن أعرّف معنى حلاوة السكر لشخص لم يذق السكر في حياته البتّة. فقد أقول له إن السكر له طعم مستساغ. فقد يسألني هل طعمه قريب من طعم اللحم المشوي. أقول له لا طعمه يتناقض مع طعم المرارة كالتي نجدها في الحنضل. فقد يستنتج أن طعم السكر قريب من طعم الملح... ويتواصل هذا الجدال الذي لا طائل منه. نستنتج من هذا المثال أن الحلاوة كحلاوة لا تعرف إلاّ بالحلاوة، لا تعرف كنقيض للمرراة أو غير ذلك. هذا المثال هو مثال مادّي للتبسيط، ولكن سبينوزا يتحدّث عن ماهية المفاهيم مثل أفلاطون، مثل ماهية العدالة والخير... تعتبر هذه المعرفة محلّ تبجيل من قبل الفلاسفة المثاليين.

الفـقــــــــــرة 15

في هذه الفقرة يقدّم سبينوزا أمثلة توضيحية لضروب المعرفة الأربعة التي ذكرها سابقا في الفقرات: 14.13.12.11

الفـقــــــــــرة 16

يقدّم سبينوزا مثالا مأخوذا من الحساب، يقول عنه أنّه سيوضّح "كلّ ما تقدّم على أحسن وجه" ص33 س10). وليته ما فعل! فمحتوى هذه الفقرة شاذّ عن النسق ولا نفهم علاقته بضروب المعرفة السّابقة.

 نهاية الفقرة صادمة للقارئ إذ يقول فيها الكاتب"فالمطلوب أن نستعرض بإيجاز الوسائل الضرورية لبلوغ غايتنا". وصلنا إلى الفقرة 17 والكاتب مازال يمهّد ويلفّ. الوسائل الضرورية لبلوغ الكمال التي تعرّض لها الكاتب إلى حدّ الآن يصعب حصرها ومازالت له وسائل ضرورية أخرى لم يذكرها بعد. فما هي هذه الوسائل الضرورية؟ حقّا أصبحت مطالعة الكتاب ممّلة. الفقرة المفيدة والدسمة إلى حدّ الآن هي الفقرة الخامسة.

الفـقــــــــــرة 17

الوسيلة الأولى: معرفة طبيعتنا حقّ المعرفة ومعرفة طبيعة الأشياء معرفة وافية.

من شدّة الاستفاضة في الحديث عن الأرضية الممهّدة للبحث عن الكمال وقع الكاتب في الخلط والكرار والإطالة وحتّى التناقض.

1) معرفة طبيعتنا هذه، التي اعتبرها الكاتب هنا وسيلة كان قد اعتبرها الهدف نفسه والكمال نفسه. الم يقل في الفقرة الخامسة "إن الكمال يكمن في اكتساب طبيعة بشرية متفوّقة وليس ذلك أكثر من معرفة إتحاد الفكر بالطبيعة كلّها "ص30 س14).

2) معرفة طبيعة الأشياء هي وسيلة لمعرفة طبيعة الذات، فماذا يجمعهما الكاتب هنا وكأنّه يجمع الوسيلة والهدف.

الفـقــــــــــرة 18

مهزلة!!! ما يقوله الكاتب هنا هو استنتاج من الوسيلة المذكورة في الفقرة السابقة، فكيف يفرد هذا الاستنتاج في فقرة خاصّة؟ والأدهى من ذلك يعتبره وسيلة ثانية؟

 المهمّ أن الكاتب يعود إلى ما ذكره في آخر الفقرة الخامسة حيث بيّن أهمّية العلوم في معرفة إتّحاد الفكر بالطبيعة ككلّ. فهذه العلوم ستمكّننا بشكل مباشر من معرفة مواطن الاختلاف والتناسب والتقابل  بين الأشياء والظواهر الطبيعية وهو ما نجده في العلوم الطبيعية.

الفـقــــــــــرة 19  

يقول الكاتب إن هذه المعرفة المعمّقة للأشياء ستمكّننا من الاستفادة منها من جميع النواحي جسديا وروحيّا.

الفـقــــــــــرة 20

أهمّ فائدة لهذه العلوم هي أنّها ستعدّل نظرتنا لأنفسنا لأنّنا يمكن أن نستأنس بها في تأمّل ذواتنا. فهذه العلوم ستفتح أمامنا الطريق نحو إعادة النظر في طبيعتنا وقدرتنا وذلك بالمقارنة بين ما نعرفه عن أنفسنا وما زوّدتنا به العلوم من معارف.

الفـقــــــــــرة 21

مهزلة أخرى: خطأ منهجي فادح. يعود الكاتب إلى مناقشة ضروب الإدراك التي ذكرها في الفقرات: 14.13.12.11 وليكون هناك انسجام بين الفقرات من المفروض أن تحذف الفقرات 21.20.19.18.17.16. ولو حذفت لما كان هناك خلل في تسلسل الأفكار. يبدو أن الكاتب كتب هذا الكتاب لنفسه وسجّل فيه خواطر ولم يكن معدّا للنشر بدليل أنّه لم ينهيه وتوقّف عن إتمامه عمدا. فهذا الكتاب هو المخبر الذي أفرز كتاب "الأخلاق".

الفـقـــــــــــرة 22

الموضوع: نقد السمع كوسيلة للمعرفة. (الوارد في الفقرة 11)

لا يقصد الكاتب السمع كحاسّة لسماع الأصوات التي تحيط بنا، كسماع زقزقة العصافير، وإنّما يقصد السماع كوسيلة للمعرفة أي اكتساب معلومات من حديث الرّواة. ينتهي سبينوزا إلى القول "ينبغي إقصاء اليقين الحاصل عن طريق السمع من العلوم" (ص34 س16). أكيد أن عديد المعلومات العلمية لا يمكن معرفتها بمجرّد السماع ولذلك يعتبر المنهج التجريبي منهجا أساسيا في العلوم. وهنا لا بدّ من تغليب العين على الأذن. فالذي قام ببحوث ميدانية في الطبيعة، فزار الغابات وشمّ الأزهار البرّية وتذوّق النباتات ليس كمن سمع عنها. ومع ذلك فالسماع ضروري من بعض الجوانب. فهل من الضروري أن نضع أيدينا في النار حتّى نعرف أنّها تحرق أو نشرب السمّ حتّى نعرف أنّه قاتل؟

الفقرة 23

الموضوع: نقد الضرب الثاني من المعرفة (المعرفة عن طريق التجربة المبهمة الوارد ذكرها في§12)

باِعتبار أن هذه التجربة المبهمة هي تجربة يومية أي تجربة الإنسان العامي في حياته اليومية فإنّها لا تحصل بتخطيط مسبق وباِنتظار نتائج معيّنة. فالذي يقوم بتجربة في المخبر يبحث عن نسب معيّنة ونتائج منتظرة، أمّا ما يترتّب عن التجربة المبهمة فهو عامّ وفضفاض. كأن يقال لك إذا نزلت الأمطار في فصل الخريف فإن الموسم الفلاحي سيكون مربحا. لكن هذه القاعدة لا تصرّح في أيّ شهر من فصول الخريف ستنزل هذه الأمطار ولا تضبط كمّيتها ولا كيفية نزولها هل هي مصحوبة برياح أم لا... ولأنّ هذه التجربة مبهمة ينتهي سبينوزا إلى القول "وبالتالي فلا بدّ من اِستبعاد هذا النوع من المعرفة أيضا" (ص35 س3).

الفقرة 24

الموضوع: نقد المعرفة الاِستنتاجية المبنية على التجربة المبهمة (الوارد ذكرها في §13)

هذه المعرفة أفضل من السّابقتين باعتبار أن فيها استخدام للذهن وتجاوز للمحسوس، ولكن إذا اقتصرنا عليها لن نصل إلى الكمال.

الفقرة 25

الموضوع: مدح المعرفة البرهانية. (الواردة في §14)

هذا النوع من المعرفة هو النوع الوحيد الجدير بالثقة لأنّه "يدرك ماهية الشيء التامّة دونما خوف من الوقوع في الخطإ" (ص35 س7). كيفية استخدام هذا النوع من المعرفة يرجئه الكاتب إلى وقت لاحق.

الفقرة 26

 حقيقة الكاتب معقّد من مسألة المنهج إلى حدّ بعيد وقد يكون في ذلك متأثّرا بديكارت. فكلّما ذكّر بموضوع البحث عن الكمال عاد للحديث عن المنهج أو الوسيلة وبالغ في ذلك. ثمّ لا يتردّد في الإعلان أن هذه الوسيلة لا بدّ لها من وسيلة، وتلك الوسيلة لا بدّ لها هي أيضا من وسيلة... فكيف حلّ سبينوزا هذا المشكل؟

إذا تمسّكنا بالمنطق وقلنا أن لخلق الوسيلة لا بدّ من وسيلة فإنّنا لن نصنع شيئا لأنّ لصنع أيّة وسيلة لا بدّ من وسيلة هي غير موجودة ولا بدّ من إيجادها بوسيلة هي أيضا غير موجودة ولا بدّ من صنعها. المشكل لا يحلّ منطقيا وإنّما يحلّ –وقد حلّ تاريخيا- عمليّا، سواء في الأعمال المادية (فلاحة، صناعة...) أو في الأعمال النظرية. حُلّت هذه الصعوبات تدريجيا وبأدوات بسيطة وجانبية ولكن وقع تجويدها وتطويرها حتّى أصبحت وسائل فعّالة. "وعلى نحو ذلك يصنع العقل بقوّته الفطرية أدوات عقلية يضاعف بها قوّاه لغاية تحقيق أعمال عقلية أخرى" (ص36 س1). فهل مضمون هذه الفقرة هو انجاز لما أعلنه الكاتب في بداية الفقرة حيث قال "والآن بعد أن عرفنا أيّ نوع من المعرفة يلزمنا يجب أن نشير إلى السبيل والمنهج اللّذين سيقوداننا إلى معرفة الأشياء" (ص35 س11).

الفقرة 27

تنقسم هذه الفقرة إلى محورين:

1)- الموضوع مختلف عن فكرته: "تختلف الفكرة الصحيحة (إذا نملك فكرة صحيحة) عمّا هي فكرته" (ص36 س8). يقول سبينوزا إن الفكرة الصحيحة (على افتراض أنّنا نملك هذه فكرة) تختلف عن الموضوع الذي تمثّله. ف "زيد" مثلا شخص واقعي متميّز عن فكرته (أي عن فكرة زيد). فهل فكرة زيد تقلّ واقعية عن زيد نفسه؟ يجيب سبينوزا "فلمّا كانت فكرة زيد شيئا واقعيا مالكا لماهيته الشخصيّة فهي أيضا شيء معقول" (ص36 س16). ما لم يذكره سبينوزا ولكن يمكن أن نستنتجه من خلال قوله، هو أن فكرة زيد لا يمكن أو توجد إلاّ باتخاذنا زيدا موضوعا للدراسة. وتصبح واقعية فكرة زيد مستمدّة من زيد نفسه كشخص واقعي ومن دارس زيد أيضا. ومثلما درسنا زيدا وكوّنا عنه فكرة بدراسته يمكن أن ندرس فكرته وبذلك نخلق فكرة أخرى للفكرة (فكرة الفكرة). ما يبرّر إرجاع توالد الأفكار (التي يقوم بها الإنسان) هو قول سبينوزا "وبوسع كلّ واحد أن يختبر ذلك، إذ يرى أنّه يعلم من هو زيد، وأنّه يعلم أنّه يعلم ذلك وأنّه يعلم علمه بذلك، إلخ" (ص36 س19).

ويجب أن نلاحظ هنا أن دراسة فكرة الموضوع مرتبط بوعي الدّارس أنّه يعرف الموضوع أو قد درسه وشكّل فكرة عنه. فإن كانت معرفة الموضوع ميدانية خارجية فإنّ معرفة فكرة الموضوع هي معرفة تأمّلية ينصبّ فيها على محتواه.

2)- معرفة موضوع ما لا يقتضي بالضرورة معرفة فكرته: يرى سبينوزا أن معرفة موضوع ما لا يقتضي معرفة فكرته. فما معنى ذلك؟ قلنا سابقا أن وجود الفكرة يتوقّف على دراسة الموضوع، وهذا يعني أن الفكرة تأتي في مرحلة ثانية بعد دراسة الموضوع. فيجب أن يوجد الموضوع أوّلا وأدرسه وبعد ذلك أدرس فكرتي عنه. لكن في المقابل هل يمكن أن ندرس الفكرة عن الموضوع قبل دراسة الموضوع نفسه؟ طبعا لا يمكن ذلك طالما أن فكرة الموضوع ناتجة عن دراسة الموضوع. يقول سبينوزا "فحتّى أعرف أنّني أعرف، لا بدّ أن أعرف أوّلا" (ص37 س6). ومعناه: حتّى أعرف فكرتي التي كوّنها عن الموضوع لا بدّ أن أعرف الموضوع أوّلا.

الفقرة 28

أفكار غير مفهومة عموما  والجزء المفهوم غير مقبول. فكرة الكائن الأكمل هي مفتاح المنهج والمعرفة. فبخصوص المنهج يقول سبينوزا "المنهج الأكمل هو المنهج الذي يبيّن كيف ينبغي توجيه الفكر وفق معيار فكرة الكائن الأكمل" (ص38 س6). أمّا أن المنهج هو الذي يوجّه الفكر فهذا معروف ولكن لماذا وفق معيار فكرة الكائن الأكمل وما معنى ذلك؟ ثمّ ما معنى أن الفكر "يصبح على غاية من الكمال إذا ما دأب الفكر على معرفة الكائن الأكمل وعلى تأمّله" (ص38 س15). فإذا كان من مزايا الفكر قدرته على الوصول إلى القوانين العلمية والرّياضية والفيزيائية وغيرها، فلا نفهم ما علاقة التبّحر في الرّياضيات بتأمّل الكائن الأكمل؟؟ أفكار غريبة عن ثقافتنا المعاصرة.

الفقرة 29

ما قلناه حول الفقرة السّابقة هو تسجيل لتعجّب وإشارة لصعوبة قبول ما جاء فيها من أفكار. وينشرح صدر القارئ عندما يقرأ في مطلع هذه الفقرة "ولعلّ الواحد منّا سيتعجّب هنا". ويذهب في ظنّك أن سبينوزا أدرك غرابة أفكاره وما يجول في خاطر القارئ وتنتظر منه توضيحا. فإذا به يقول قولا يعمّق الدهشة. يقول سبينوزا "قد يتعجّب البعض كيف أنّنا نثبت ما قلناه سابقا بواسطة الاستدلال وكأنّه يريد أن يقول أن المسألة بديهيّة جدّا لا تحتاج للبرهنة. ثمّ يقول سبينوزا إن اِلتجاءه للاِستدلال يجعله في مأزق منطقي هو ضرورة البرهنة البرهنة على صلوحية هذا الاستدلال باستدلال ثان وهلمّ جرّا. كيف خرج سبينوزا من هذا المأزق؟ خرج بقوله "لأنّ الحقيقة كما أثبتنا تكشف ذاتها بذاتها" (ص39 س15). ومادام الأمر كذلك فإن الحقيقة تكمن داخل الفكرة الحقيقية ولا تستدعي أيّة إحالة على شيء خارج الفكر. إن الحقيقة تكون دائما في إطار الذهن ولن تتحدّد بالعودة إلى الواقع أيّ أن كلّ فكرة يجب أن تكون متولّدة من فكرة أخرى وذلك عن طريق الاستنتاج. بحيث تكون الأفكار مرتبطة ببعضها كحلاقات السلسلة. وإذا كان الأمر كذلك فمن المفروض أن تكون هناك فكرة أولى هي منطلق الأفكار تماما كالحلقة في السلسلة. إن الفكرة الأولى هي بمثابة نقطة اِنطلاق الاستنتاج هي الفكرة التي لنا عن الموجود الأوّل. ذلك هو النظام الذي سيقوم عليه كتاب "الإيتيقا". ينطلق سبينوزا من فكرة الله (وهو لا يفرّق بين الله والطبيعة) وينتقل بعد ذلك إلى اعتبار أحواله، أي مجموع ما هو موجود. ذلك هو نظام المعرفة الحقّة. وهذه المعرفة الحقيقية عند سبينوزا هي المعرفة الاستنتاجية والرياضية والعقلية.

الفقرة 30

يردّ سبينوزا على اِعتراض مفترض. فقد يعترض عليه معترض بالقول "أيّها الفيلسوف الذي جعلت المعرفة كلّها سلسلة من أفكار تنبني على فكرة أساسية هي الكائن الكامل، لماذا لم تطرح لنا هذه المنظومة المعرفية الرياضية والفيزيائية والإنسانية... ما الذي يمنعك والفكرة الصحيحة لديك؟ ما هي إجابة سبينوزا على هذا الإعتراض؟ يدعو القارئ إلى التمسّك بالآراء الشائعة ولا يعارضها بما يكتسبه من أفكار جديدة بل يعارضها فقط بنظام الاستدلال في فلسفة سينوزا. الاعتراض في واد والإجابة في واد آخر. يا أخي وافقنا على مراعاة نظام الاستدلال في فلسفتك، إعطنا المنظومة الفكرية المبنية على فكرة الكائن الكامل.

الفقرة 31

لقد وصلت الدغمائية بسبينوزا إلى حدّ القول أن من يرفض فكرة الحقيقة الأولى (الكائن الكامل) مع ما يترتّب عنها من حقائق هو واحد من إثنين:

أ- أنّه أدرك أن منظومة الأفكار يقينية ولكن لا يعلن ذلك ولا يعترف.

ب- أنّه غبيّ، أعمى البصيرة.

لماذا هذه الدغمائية؟ لأنّه يؤمن أن الحقيقة تكشف ذاتها بذاتها، يرى أنّه من المفروض أن من يطّلع على جميع الحقائق يجب أن يسلّم بها ضرورة. وهذه دغمائية أخرى.

الفقرة 32

في هذه الفقرة يقدّم سبينوزا  بفسه مخطط كتابه:

1) الغاية التي نسعى إلى توجيه جميع أفكارنا نحوها. §1§8

2) أفضل إدراك يسمح لنا بتحقيق كمالنا. §9§25

3) أوّل سبيل ينبغي أن يسلكه الفكر حتّى يكون منطلقه سليما= وهو اتخاذ فكرة معيارا للتوغّل في البحث وفق قوانين ثابتة. §26§27      

ولتحقيق ذلك فالمطلوب من المنهج:

أوّلا: أن نميّز الفكرة الصحيحة عمّا سواها من إدراكات.

ثانيا: أن يضبط القواعد التي تسمح بإدراك الأمور المجهولة.

ثالثا: أن يؤسس نظاما يجنّبنا عناء البحث في الأمور التافهة.

رابعا: سيكون أكمل المناهج إذا ما حصلت لدينا فكرة الكائن الأكمل.

لو نلخّص مخطط الكتاب انطلاقا من هذه الفقرة يكون التلخيص كالتالي:

الغاية: معرفة اتحاد الفكر بالطبيعة كلّها.

الإدراك المناسب لتحقيق هذه الغاية.

الأساس لبلوغ هذا الإدراك هو الفكرة الصحيحة.

منهج البحث عن الفكرة الصحيحة.

 الفقرة 33

مقدّمة تتمحور حول ضرورة تمييز الفكرة الصحيحة عن الأفكار الباطلة والوهمية والمشكوك فيها. لماذا يكتسي هذا التمييز أهمّية كبرى عند سبينوزا؟ لا تكمن أهمّيته فقط  في أنّه يقودنا في الأخير إلى معرفة اتحاد الفكر بالطبيعة كلّها، فذلك هو الهدف النهائي ولكن أيضا هناك هدف تعليمي يتمثّل في إنقاذ العوام من دغمائيتهم. فهم عادة ما يتمسّكون بالأفكار الخاطئة التي اكتسبوها ويعادون الأفكار الصحيحة التي يطّلعون عليها. ولولا الحلم لما أدركوا الفرق بين اليقظة والحلم ولما أدركوا معنى الوهم ولما تفطّنوا لدغمائيتهم. واضح هنا تأثّر سبينوزا بديكارت وبالتحديد بما جاء في التأمّل الثاني حيث يعرض مراحل الشكّ. ويقع الشكّ في وعينا بالوجود في المرحلة الثانية من مراحل الشكّ. (الأولى تخصّ المعرفة الحسّية والثالثة الرياضيات والرابعة العقل).

الفقرة 34

لكلّ شيء مادّي وجودان: وجود مادّي يظهر للعيان، ووجود ماهوي هو وجوده كفكرة. وتتعلّق معظم الأوهام حسب سبينوزا بالوجود المادّي. فأحكامنا حول وجود الشيء تنقسم إلى ثلاثة أنواع:

المستحيل هو الشيء الذي لو حكمنا بوجوده نكون قد وقعنا في الوهم.

الضروري هو الشيء الذي لو حكمنا بعدم وجوده نكون قد وقعنا في الوهم.

الممكن هو الشيء الذي لسنا متأكّدين من وجوده أو من عدمه، وعليه عندما نتأكّد من وجوده أو من عدمه نقول عن وجوده بأنّه ضروري أو مستحيل. "وينتج عن ذلك أنّه لو وجد إله أو كائن عليم، لما توهّم شيئا إطلاقا" (ص42 س11). فهذا الإله ليس لديه تخمين أو تكهّن لأنّه يعرف كلّ شيء. فكلّما ازداد حقل المعرفة تقلّص حقل التكهّن وبالتالي الوهم. ولذلك يكون حكم الإنسان في المسائل الواضحة حكما صارما غير وهمي. فهل يمكن أن أقول عن نفسي أنّني غير موجود وأنا أعلم علم اليقين أنّني موجود؟ وهل يمكن أن أزعم أن الفيل يمرّ بثقب إبرة وأنا أعلم استحالة ذلك؟

هناك ملاحظة هامشية يسوقها سبيوزا في آخر الفقرة تقول إن إدراك وجود الشيء يكون أفضل بإدراك وجوده العيني وليس بالنظر لطبيعة الوجود ككلّ لأنّ الحكم على وجود الشيء انطلاقا من معنى الوجود هو حكم يمكن أن ينطبق على أيّ شيء بينما الحكم على وجود الشيء من وجوده العيني المباشر يكون حكما يخصّ ذلك الشيء بالذات.

الفقرة 35

 المركّب النعتي "الفكرة الوهمية" الوارد في الفقرة هو تعريب لـ "l’idée forgée" في النسخة الفرنسية وهو تعريب غير دقيق وكان من الواجب أن تعرّب بـ "الفكرة المختلقة" أو المصطنعة. فشتّان  بين الفكرة الوهمية والفكرة المصطنعة. ماذا يقصد الكاتب بالفكرة المصطنعة؟

يقول الكاتب أنّه عندما يصطنع فكرة فلا يعني ذلك أنّه يصدّق ما يصطنعه من أفكار. فالمسألة مسألة تخيّل فحسب. فعندما أعتقد أن الأرض نصف مكوّرة أو أن الشمس تدور حول الأرض فلا يعني ذلك أنّني أؤمن بذلك. ولمزيد الدقّة يرى الكاتب أنّنا لا نستطيع أن نتحدّث عن شخص يصطنع الأفكار إلاّ بشرط هو وعيه بأن ما يقوله ليس صوابا "بشرط أن نلاحظ أوّلا أنّنا قد نكون أخطأنا في بعض الأحيان وأصبحنا الآن نعي أخطاءنا وأنّنا نستطيع أن نتوهّم" (ص43 س11). ولمزيد توضيح الفرق بين الوهم والاختلاق يمكن القول:

في حال اختلاق الأفكار:

*بخصوص استحالة الوجود: أتحدّث عن شيء هو غير موجود ولا أعتقد في وجوده. كأن أتحدّث عن وجود الغول (وأنا لا أعتقد في وجوده).

*بخصوص ضرورة الوجود: أنفي وجود شيء هو في الواقع موجود وأنا في قرارة نفسي أقرّ بوجوده. كأن أقول إن الأرض لا تدور حول الشمس (وأنا أعتقد عكس ذلك).

في حال توهّم الأفكار:

*بخصوص إقرار استحالة الوجود: أتحدّث عن شيء هو في الواقع غير موجود ولكن أعتقد أنّه موجود. كأن أتحدّث عن وجود الغول (وأنا أؤمن بوجوده).

*بخصوص نفي ضرورة الوجود: أنفي وجود شيء هو موجود ولكن أعتقد أنّه غير موجود. كأن أقول إن الأرض لا تدور حول الشمس (وأنا أؤمن بالفعل أنّها لا تدور حول الشمس).

في الاختلاق أنا مخطئ في أقوالي مصيب في اعتقاداتي، بينما في حال التوهّم أنا مخطئ في أقوالي واعتقاداتي. طبعا أتوقف عن اصطناع الأفكار عندما أتحوّل إلى شخص عامّي يخطئ فيرى استحالة وجود ما هو موجود، كأن لا يرى أن الأرض كروية الشكل أو يرى ضرورة ما هو غير موجود كأن يعتقد أن هناك غولا.   

ممّا لاشكّ فيه أن الاختلاق مقترن بوعي الفرد بأنّه يختلق فكيف ينسجم هذا الفهم مع قول الكاتب "نستطيع أن نتوهّم طالما لم نر في الأمر لا محالة ولا ضرورة" (ص43 س14). هذه الجملة هي في النسخة الفرنسية كالآتي: « nous pouvons, dis je, forger cette idée aussi longtemps que nous ne voyons pas d’impossibilité ni de nécessité ». والترجمة المطابقة لهذه الجملة هي "نستطيع ان نصطنع هذه الفكرة للمدّة التي نظلّ فيها لا نرى لا استحالة ولا ضرورة". استحالة ماذا؟ وضرورة ماذا؟ هل المقصود استحالة وضرورة وجود الموضوع المادّي أم الفكرة المختلقة؟ طبعا لا يمكن أن يكون المقصود هو الفكرة المختلقة إذ بهذا التوجّه يكون الكاتب وكأنّه يقول: نستطيع أن نختلق طالما لم نر استحالة الفكرة المختلقة. وهذا الكلام لا معنى له. أوّلا الفكرة المختلقة هي فكرة خيالية وليس من المفروض أن تكون مطابقة للواقع، وثانيا لا حدود لخيال الإنسان. لا يمكن أن تقف الاستحالة ضدّ الاختلاق، لأنّ الاختلاق هو تحدّي للاستحالة. الاختلاق هو إيجاد ما لا يمكن إيجاده فكيف يقول الكاتب بعد هذا نختلق طالما لم نر الاستحالة. وهل إذا كان الشيء يمكن إيجاده نتحدّث عن اختلاق عندئذ؟ حسب هذا الاعتراض من المفروض أن يقول الكاتب أنّه من الممكن أن أظلّ أختلق طالما رأيت أن هناك استحالة لوجود ما أتصوّره. ماذا بقى إذا؟ بماذا سنقرن الاستحالة؟ هل يقصد الكاتب أنّنا يمكن أن نختلق الأفكار طالما لم نر استحالة خلق الأفكار أي طالما لم نر استحالة العملية نفسها؟ ولكن هذا التوجّه هو توجّه سخيف ومن الصعب أن يكون سبينوزا قد قصده. كيف تنسجم هذه الجملة مع المعنى السّابق للاختلاق أو الوهم؟ تبدو هذه الجملة نشازا في هذه الفقرة. فإذا كان الاختلاق مبني على تصوّر المستحيل "الكرة الأرضية نصف كرة" مثلا، فما معنى أنّنا لا نستطيع أن تختلق طالما لم نر في الأمر استحالة أو ضرورة؟ استحالة ماذا؟ وضرورة ماذا؟

في إطار هذا الخلط هناك ملاحظة أخرى. يقول الكاتب "عندما أقول لبعضهم ليست الأرض مكوّرة فكلّ ما في الأمر أنّني أتذكّر الخطأ الذي لعلّي وقعت فيه أو كان بالإمكان أن أقع فيه سابقا" (ص43 س15). ما هذا العبث؟ عندما أقول لبعضهم ليست الأرض مكوّرة فأنا نطقت بجملة تقريرية وتبنّيت حكما بأن الأرض مكوّرة فكيف أقول بعد هذا "كلّ ما في الأمر أنّي أتذكّر الخطأ الذي لعلّي وقعت فيه" فإن كنت نعرف أنّه خطأ فكيف ننطق بهذه الجملة التقريرية "الأرض ليست مكوّرة" وكأنّها حكمة. ثمّ أيّة علاقة بين النطق بهذه الجملة وتذكر الخطأ؟؟ هذا خور!!

الفقرة 36

تندرج هذه الفقرة في إطار ما ذكره سبينوزا سابقا وهو أن اصطناع الأفكار لا يعني اعتقاد المصطنع فيها. ويتناول في هذه الفقرة الأفكار التي تفترض ما هو مستحيل، هل أن الشخص الذي يفترض أفكارا غير معقولة ومستحيلة الحدوث هل هذا الشخص يؤمن بما يقول أم لا؟ إجابة سبينوزا واضحة ومعقولة، هذا الشخص لا يؤمن بذلك فطالما أنّها فرضية مستحيلة فلا يمكن أن نصدّقها.هناك ملاحظتان جديرتان بالطرح:

1)             في آخر الفقرة يقول سبينوزا « il n’y a la aucune fiction mais des assertions pures et simples » وقد ترجمها المترجم كما يلي "فليس هناك إذن أي وهم، بل هناك فقط اِدّعاءات صادقة" ولا نفهم كيف يذكر المترجم هنا ليس هناك أيّ وهم ويذكر في الفقرة 35 "وأنّنا نستطيع أن نتوهّم" (ص 43 س13). لقد أوقع المترجم الكاتب في تناقض بهذه الترجمة الخاطئة بينما النصّ الفرنسي يحافظ على المعنى الذي قصده الكاتب.

2)             ثمّ إن سبينوزا لم يتحدّث عن صدق الادّعاءات. ولا نفهم لماذا اختار المترجم كلمة "صادقة" والحال أن الكاتب يقصد أنّها مجرّد ادّعاءات لا أكثر ولا أقلّ، أي مجرّد فرضيات إجرائية تقف عند حدود النظر. بينما وصفها بالصادقة فيه إقحام لموقف صاحبها منها.

الفقرة 37

ما هي صلة الأفكار المصطنعة بعالم المعرفة؟ الأفكار المصطنعة باُعتبارها اختلاق هي إضافة لهذا العالم. مثال ذلك صورة فتاة وصورة سمكة فجّرتا صورة عروس البحر. يواصل سبينوزا التمسّك بفكرة أن اختلاق الأفكار لا يعني الإيمان بها. يقول سبينوزا " لا نستطيع بعد معرفة طبيعة الأجسام أن نتوهّم ذبابة لامتناهية ولا أن نتوهّم بعد معرفة طبيعة النفس نفسا مربّعة رغم أنّنا نستطيع التلفّظ بكلّ ما نشاء التلفّظ به" (ص44 س13).سبينوزا يفرّق –كما ذكر ذلك في الفقرة 35- بين مستوى الإعتقاد ومستوى اللغة. فالاختلاق المعبّر عنه في القول لا يعني الإيمان به.

لكن الملاحظة التي ساقها سبينوزا في هذه الفقرة والمتمثلة في أن اختلاق الأفكار يزداد كلّما عظم الجهل وعكس ذلك يقلّ عندما تعظم المعرفة. ملاحظة غير مقبولة وتشوّش على المعنى أكثر ممّا توضّحه.

الفقرة 38

في هذه الفقرة يعارض سبينوزا الرّأي القائل إن الإنسان إذا تصوّر شيئا على نحو ما وتمكّن بضرب من الحرّية التسليم بوجود هذا الشيء في الواقع فإنّه بعد ذلك لن يستطيع أن يتصوّر هذا الشيء على نحو آخر.

بالنسبة لسبينوزا الذهن الذي استطاع أن يتصوّر شيئا على نحو ما قادر على أن يتزحزح عنه ليتصوّره على نحو آخر. لكن ليس هذا هو المهمّ. المهمّ ليس في التصوّر وإنّما في اكتشاف الحقيقة. والذهن يكتشف الحقيقة ولا يجعلها كذلك. لكن كيف يكون ما أدركه الذهن حقيقة وليس وهما؟ إذا تأمّل الذهن شيئا موهوما واستنبط منه النظام المناسب أدرك أمام وهم وإذا تأمّل شيئا موهوما هو صادق بطبعه واستنبط ما يمكن استنباطه حسب النظام المناسب أدرك أنّه أمام حقيقة. فالحقيقة هي التي تفرض نفسها كحقيقة وهو إلزام يفتقده الوهم. ولذلك لا خوف من اصطناع الأفكار فالاصطناع لا يخلق الحقيقة.

الفقرة 39

لا خوف من الخلط بين الوهم والأفكار الصادقة لأنّ الحقيقة تعبّر عن نفسها كحقيقة لأنّ في الحقيقة ما يجعلها مقنعة للذهن أنّها حقيقة. والذهن إذا عرفها عرف قيمتها.

الفقرة 40

إن القاسم المشترك بين الفكرة المصطنعة والفكرة الباطلة fausse هما أنّهما تعبّران عن صورتين لا وجود لهما في الواقع. (مثل صورة عروس البحر، صورة الغول...) ولكن الفرق بينهما أن الفكرة المصطنعة لا يصدّقها صاحبها ويعرف أنّها خيالية بينما الفكرة الباطلة يصدّقها صاحبها ويأخذها على أنّها حقيقة وواقع. كاعتقاد "بعضهم أن هناك آلهة تسكن في الغابات أو تحلّ داخل الأوثان والحيوانات وما إلى ذلك" (ص48 س10). إن هذا الاقتران بين الخيال والتصديق نجده في الحالم. فالحالم وهو يحلم لا يعتقد أنّه يحلم. فهو أثناء الحلم يصدّق عالمه الخيالي. الشخص الذي يؤمن بأفكار باطلة لا يختلف عن هذا الحالم. فهو يحيا مع الناس في اليقظة ولكن تعشش في دماغه الخيالات لذلك يقول سبينوزا "فالفكرة الباطلة لا تعدو إلاّ تكون حلما في حالة يقظة أو أضغاث أحلام".

الفقرة 41

ما هو الفرق بين الفكرة الصحيحة والفكرة الباطلة؟

الفكرة الصحيحة تتميّز عن الفكرة الباطلة بطابع داخلي وخارجي:

الدّاخلي: لنفترض أن شخصا له مشروع لم ينفّذه بعد. فهل أن هذا المشروع كفكرة هو فكرة صحيحة؟ نعم، فهذه الفكرة تظلّ هي نفسها سواء نفّذ المشروع أم لم ينفّذ. لنفترض أن مهندسا وضع مثالا هندسيا لبناء وحدة سكنية. فلا يجوز أن نقول أن هذا المثال الهندسي خاطئ؟ فحتّى وإن كانت الغرف ضيّقة فالمهندس يريدها كذلك، بدون بيوت استحمام! المهندس يريدها كذلك. فقيمة هذا المثال هو في ذاته فريد من نوعه ويستمدّ قيمته من ذاته.

الخارجي: إذا حكمنا على شيء أو ظاهرة واقعية فمن المفروض أن نحترم نظام الواقع. فإذا قال شخص "إن زيدا موجود" مع العلم أن زيدا موجود بالفعل، ولكن القائل لا يعرف أنّه موجود وحكمه كان عشوائيا. فتفكير هذا القائل ليس تفكيرا صحيحا لأنّ هذا الحكم في حاجة لسند واقعي هو وجود زيد.

الفقرة 42

يحدّد هنا سبينوزا ما سمّاه هو أكبر انخداع يحصل للمرء وهو تخيّل بعض الصوّر الواضحة والمتميّزة. فهذه الصوّر تجمع بين الخيال من جهة أنّها خيالية وتجمع بين الذهن من جهة أنّها واضحة ومتيمّزة وتبعا لذلك فإن الفكرة الصحيحة لا يمكن أن تنفصل عن الأفكار المتميّزة.

 

  

 

 

Tags

Enregistrer un commentaire

0Commentaires

Please Select Embedded Mode To show the Comment System.*

To Top