1. الوجودية مذهب إنساني

ECRITS
0
                                    
حسن الولهازي (تونس)

تحليل نصّ لسارتر من كتاب "الوجودية مذهب إنساني"
حول سوء الفهم للوجودية

يقول جان بول سارتر:

" إن معظم من يستخدمون هذه اللفظة –الوجودية- قد يختلط عليهم الأمر، ويستعصى عليهم أن يشرحوا معناها لو طلب إليهم ذلك، والناس قد صارت "الموده" عندهم أن يصفوا هذا الرّسام، أو ذاك الموسيقي بأنّه "وجودي". وهناك من يسمّي نفسه وجوديا، كهذا الصحفي الذي يوقّع في مجلّة كلاريتيه باسم "الوجودي"، حتّى تفلطحت الكلمة اليوم، ولم يعد لها شكل ولا معنى.

يبدو أنّه لعدم وجود مذهب جديد يصبّ فيه النّاس غرائبهم وشذوذهم مثل السريالية، فإنّ كلّ من يريد أن يشارك في آخر صيحات الفضائح، ويسهم في آخر ما استحدثته البدع، لا يجد أمامه إلاّ الوجودية، والوجودية منهم براء، فهي لا تعرف بدعهم، ولا تعترف بمساخرهم، ولا تختلق فضائح وتهاويل، وإنّما هي فلسفة لا يتقنها إلاّ المشتغلون بتدريسها، والفلاسفة المعنيون بها.

     ومع ذلك فهي فلسفة سهلة متفائلة، يمكن شرحها.لكن المسألة وقد تتعقّد، نظرا لأنّه توجد هناك فلسفتان للوجودية وليست فلسفة واحدة، يعتنقها صنفان من الوجوديين، وليست صنفا واحدا منهم. فهناك الوجوديون المسيحيّون، وعلى رأسهم "ـابريال مارسال"، و"يسبرز" والإثنان مسيحيان كاثوليكيان مخلصان لكاثوليكيتهما، وهناك الوجوديون الملحدون، وعلى رأسهم "هيدــار"، والوجوديون الفرنسيون، وأنا.

والوجوديون عموما، سواء المسيحيين أو الملحدين يؤمنون جميعا أن الوجود سابق على الماهية، أو أن الذاتية تبدأ أوّلا...

ولكن ما معنى هذا الكلام؟...

لو تناولنا أيّا من الأشياء المصنوعة –مثلا هذا الكتاب، أو سكينة من السّكاكين- نجد أن السّكينة قد صنعها حرفي، وأن هذا الحرفي قد صاغها طبقا لفكرة لديه عن السّكاكين، وطبقا لتجربة سابقة عن صنع السّكاكين، وأن هذه التجربة أكسبته معرفة هي جزء لا يتجزّأ من الفكرة المسبّقة التي لديه عن السّكاكين، والتي لديه عن السكّين التي سيصنعها. وأن الصّانع كان يعرف لأيّ شيء ستستخدم السكّين، وأنّه صنعها طبعا للغاية المرجوة منها، وإذن فماهية السكّين -مجموعة صفاتها وشكلها وتركيبها والصفات الدّاخلة في تركيبها وتعريفها- كلّها سبقت وجودها، وبذلك يكون هذا النوع من السّكاكين وجودا معيّنا خاصّا بها، وأنّه وجود تكنيكي، بمعنى أن السكّين بالنسبة لي هي مجموعة من التركيبات والفوائد، ونظرتي لكلّ الأشياء لكلّ الأشياء بهذه الطريقة تكون نظرة تكنيكية، يسبق فيها الإنتاج على وجود الشيء وجودا محقّقا، أي أنّه قبل أن يوجد الشيء لا بدّ أن يمرّ على مراحل عدّة في الإنتاج.

ونحن عندما نفكّر في الله كخالق، نفكّر فيه طوال الوقت على أنّه صانع أعظم، ومهما كان اعتقادنا، سواء كنّا من أشياع "ديكارت"، أو من أنصار "لايبنيتس" فإنّنا لا بدّ أن نؤمن بأنّ إرادة الله تولد أساسا، أو على الأقلّ تسير جنبا إلى جنب مع عمليّة الخلق، بمعنى أنّه عندما يخلق فهو يعرف تمام المعرفة ما يخلقه، فإذا فكّر في خلق الإنسان، فإن فكرة الإنسان تترسّب لدى الله، كما تترسّب فكرة السكّين في عقل الصّانع الذي يصنعها، بحيث يأتي خلقها طبقا لمواصفات خاصّة وشكل معيّن، وهكذا الله فإنّه يخلق كلّ فرد طبقا لفكرة مسبقة عن هذا الفرد.

فلمّا قامت النظريات الإلحادية في القرن الثامن عشر، قضت على فكرة الله فلسفيا، ولكنّها لم تقض على فكرة أن الماهية تسبق على الوجود، حتّى وجدنا فكرة الماهية مازالت مسيطرة على أذهان الكثيرين، فنجدها عند "ديدرو" وعند "ڢولتير" حتّى عند "كانط"، فالإنسان له طبيعة بشرية، وهذه الطبيعة البشرية هي ما يصاغ عليها الإنسان، وهي ما يتّسم به كلّ إنسان، أو يشترك في صفاتها مع غيره من البشر. وبذلك تكون الإنسانية كلّها، أو أفرادها، قد خلقوا طبقا لفكرة عامّة أو مفهوم عام أو نموذج عام، يجب أن يكون عليه البشر.

ويغالي "كانط" في وصف هذه الطبيعة العامّة للبشرية، بحيث يساوي بين  رجل الغابة والإنسان الطبيعي والبرجوازي، ويجعلهم يشتركون في صفات عامّة.

وهكذا نجد فكرة الإنسان في التاريخ أسبق على حقيقته، بمعنى أنّنا نجد أنّه لا يوجد بشر معينون وكلّ منهم يختلف عن اللآخر، ولكن توجد فكرة عامّة وإطار عام يجمع البشر جميعا ويساوي بينهم، ثمّ هناك بعد ذلك الآحاد المتميّزة عن البشر، أي أن الماهية تسبق على الوجود مرّة أخرى.

حان پول سارتر "الوجودية فلسفة إنسانية ".  من ص 10 إلى ص13

    ترجمة عبد المنعم الحفني

1)تمهيـــــــــــد:

يمكن القول إن هناك طريقتين يطرح بهما الفيلسوف فلسفته، تتمثّل الطريقة الأولى في طرح الفيلسوف لفلسفته تحت دافع الإفصاح عن الحقيقة وإعلام الغير بما يراه هو جديرا بالاعتقاد. ويمكن القول إن فلسفته تلك هي ردّ فعل على ما يشاهده وما يطالعه وما يتعرّض له. وتتمثّل الطريقة الثانية في طرح الفيلسوف لفلسفته أو لجانب منها كردّ فعل على نقد وُجّه لفلسفته إمّا لغموض بعض المفاهيم فيها  أو لصعوبة قبول بعض المواقف بحيث يكون طرح الفيلسوف هنا للتوضيح والردّ والدّفاع. وتبعا لذلك من المفروض أن يكون هذا الطرح الجديد يجمع بين البساطة والعمق والإقناع.

فهل نجح سارتر في الدفاع عن فلسفته الوجودية في كتاب "الوجودية مذهب إنساني" ، تلك الفلسفة التي طرحها في "الوجود والعدم"؟ هل في دفاع سارتر عن الوجودية في كتابه "الوجودية مذهب إنساني" تكرار لما ذكره سابقا أم فيه إضافة؟

2)الإشكاليـــــــــة (هي السؤال الذي يجيب عليه النصّ)

كيف نظر النّاس للوجودية وما هي حقيقة المبدأ الذي ناقضته هذه الفلسفة وتبنّت نقيضه؟

3)المحــــــــــــاور (وهي أقسام النصّ)

المحور الأوّل: شيوع استخدام لفظ الوجودية مع جهل معناها والظروف التي أوجدت هذه الوضعيّة.

من بداية النصّ إلى "والفلاسفة المعنيون بها".

المحور الثاني: "الماهية تسبق الوجود" هو المبدأ الذي رفضته الوجودية وتبنّت نقيضه.

من "ومع ذلك فهي فلسفة سهلة" إلى آخر النصّ.

أقسام المحور الثاني

1)كيف تسبق ماهية الأشياء المصنوعة وجود هذه الأشياء نفسها؟

من "ومع ذلك فهي فلسفة سهلة" إلى "يمرّ على مراحل عدّة في الإنتاج".

2)في الأديان ماهية الإنسان تسبق وجوده.

من "ونحن عندما نفكّر في الله كخالق" إلى "طبقا لفكرة مسبقة عن هذا الفرد".

3)في النظريات الإلحادية في القرن الثامن عشر ماهية الإنسان تسبق وجوده.

من  "فلمّا قامت النظريات الإلحادية"   إلى آخر النصّ.

4)التـحـليـل

أوّلا: شيوع استخدام لفظ الوجودية مع جهل معناها والظروف التي أوجدت هذه الوضعية.

كيف تقبّل عامّة النّاس الفلسفة الوجودية رغم النقد الذي وجّهه لها البعض؟

إنّ النقد الذي وجّه للفلسفة الوجودية هو في الحقيقة من قبل أكادميين (فلاسفة، مفكّرون، أدباء،....). ولم يزدها هذا النقد إلاّ إشعاعا. فحازت شهرة لم تشهدها فلسفة من قبل، حتّى أنّها أصبحت موضة في منتصف القرن العشرين (كتاب الوجود والعدم لسارتر صدر سنة1943) وأصبح أغلب النّاس يتقرّبون منها رغم أن أكثرهم لا يفهمها. فهذا رسّام في مجلّة يوقّع باسم "الوجودي" وذاك إذا حكم على سلوك قارنه بسلوك الوجودي. وأصبحنا نتحدّث عن ملامح أو صفات معيّنة للرسّام الوجودي والموسيقي الوجودي والأديب الوجودي...

عمّاذا يدلّ ذلك؟

يدلّ ذلك على القبول الحسن الذي حُضيت به الفلسفة الوجودية. فهذه الأخيرة أصبحت محور حديث النّاس، وشائعة لدرجة أنّها أصبحت مرجعا وكأنّها فلسفة مجتمع لا فلسفة فلاسفة.

ولكن ما هي نتيجة شيوعها في غير أهلها؟

إن هذا الانتشار الغير مؤسس على فهم واضح ودراية معمّقة جعل لفظة "الوجودية" لفظة مبتذلة تُطرح كما اتفق. فأصبحت لفظة "الوجودي" تؤخذ تارة في معنى المتمرّد وتارة في معنى المتوحّد وتارة في معنى العبقري... لدرجة أن لفظة الوجودية لم تعد تعني شيئا بعينه.

هل هناك ظروف معيّنة دفعت النّاس للانتساب إلى الوجودية رغم جهلهم بها؟

يرجع سارتر السبب في ذلك إلى أن النّاس في كلّ عصر في حاجة لمذهب يصبّون فيه ميولهم وانفعالاتهم وشذوذهم. وقد كانت السريالية le surréalisme تستقطب هذه "الشطحات" والبدع فلمّا ولّى زمن السريالية لم يجد النّاس غير الوجودية يصبّون فيها تمرّدهم وصعلكتهم وبدعهم لأنّها فلسفة تتناول المسكوت عنه. ووجد فيها كلّ من يجد صعوبة في الاندماج في مجتمعه ملاذا.

هل هذه هي الوجودية؟

إن الفلسفة الوجودية ليست فلسفة مجتمع وليست البديلة عن السريالية وليست فلسفة المرضى والصعاليك، إنّها فلسفة أكاديمية خاصّة بالفلاسفة والمشتغلين بالفلسفة.

ولسائل أن يسأل ما هي الفلسفة الوجودية كما يعرفها الفلاسفة الوجوديون بعيدا عن نظرة العوام لها؟ ما هي مبادئها وأسسها؟

ثانيا: المبدأ الذي رفضته الوجودية وتبنّت نقيضه

يبدو أن كلّ فلسفة لا تنشأ إلا بسلوك نهج الهدم ثمّ البناء أو النقد ثمّ التأسيس، ذلك كان شأن الفلسفة الوجودية أيضا. فهذه الفلسفة رفضت مبدأ "الماهية تسبق الوجود" وهو مبدأ سائد عند العوام وفي الأديان وحتّى في عديد الفلسفات لتتبنّى نقيضه وهو "الوجود يسبق الماهية" l’existence précède l’essence  فما هو معنى المبدأ "الماهية تسبق الوجود"؟ هذا المبدأ الذي عمّر طويلا والذي رفضت الوجودية تطبيقه على الإنسان.

فسّر سارتر هذا المبدأ في ثلاثة مستويات:

        ـــ  في الأشياء المصنوعة.

           ـــ  في الأديان وبالتحديد في خلق الإله للإنسان.

       ـــ  في بعض النظريات الإلحادية في القرن الثامن عشر.

1)معنى الماهية تسبق الوجود في الأشياء المصنوعة.

إنّ الشيء المصنوع لا يتمّ صنعه إلاّ بعد أن يفكّر الصّانع فيه. ولنأخذ كمثال على ذلك صنع كرسيّ. فالنجّار قبل صنعه، يحدّد على مستوى التصوّر، ارتفاع الأرجل وطول وعرض لوحة الجلوس ونوعية الخشب المستخدم... كلّ هذه الاعتبارات النظرية البحتة تسمّى "ماهية الكرسي". بعد ذلك يمرّ النجّار إلى انجاز أو تجسيد ذلك التصوّر أي إيجاد الكرسي فعليّا. نلاحظ هنا أن التفكير في الشيء الذي سيصنع يسبق إيجاد ذلك الشيء. وهذا هو معنى ماهية الشيء المصنوع تسبق وجوده.

فإذا أخذنا الآن الإله كصانع والإنسان كمصنوع فهل يمكن أن نقول كما ترى ذلك الأديان إن ماهية الإنسان تسبق وجوده؟

2)تقرّ الأديان أن ماهية الإنسان تسبق وجوده.

تقرّ الأديان أن الإله هو الذي خلق الإنسان، وطالما أن هناك عمليّة خلق فلا يمكن أن يكون الخالق جاهلا بما سيخلق. فمواصفات الفرد في ذهن الإله قبل خلقه هو المقصود بماهيته. Dieu, lorsqu’il crée, sait précisément ce qu’il crée  وهكذا تكون فكرة الإنسان في ذهن الإله كفكرة الشيء المصنوع (الكرسي مثلا) في ذهن الصّانع (النجّار).

نقد هذا الموقف الديني: لا يعلن سارتر في هذا النصّ عن أسباب رفضه لهذا المبدأ ولكن خطورته واضحة وتكمن في تكريسه للجبرية le fatalisme وإلغائه للحرّية وبالتّالي يصبح الوجود الإنساني عبثا. فإذا كان الإنسان شيئا مصنوعا ومحدّدا (بمعنى مبرمجا) مسبّقا بما سيكون عليه، فإنّ مصيره يصبح مسطّرا ولن يقدر على الإفلات من قدره ولا معنى لتحميله مسؤولية أفعاله بعد ذلك. وقد دفع هذا المأزق عديد المفكّرين إلى اعتبار الدين نظرية تتعارض مع حرّية الإنسان وقيمته وبالتالي رفضه. فهل رفض الدين ينجرّ عنه مباشرة رفض هذا المبدأ "الماهية تسبق الوجود"؟

3)إقرار بعض النظريّات الملحدة في القرن الثامن عشر بأسبقية الماهية على الوجود.

إن فيلسوفا رفض الدين، من المفروض أن برفض معه مبدأ دافع عنه الدين وهو الماهية تسبق الوجود ولكن هذا لم يحصل مع بعض الفلاسفة. فهناك من لم يتخلّص من هذا المبدأ رغم إلحاده. فكيف ذلك؟

بعض فلاسفة القرن الثامن عشر ومنهم فولتير وديدرو وروسّو وحتّى كانط رفضوا فكرة الإله ومع ذلك يقرّون بوجود طبيعة بشرية وهي جملة من الصفات والميول والدوافع المشتركة بين كلّ النّاس. فهؤلاء الفلاسفة وإن لم يتقيّدوا بفكرة الصّانع والمصنوع إلاّ أنّهم قيّدوا الإنسان بماهية مسبّقة ستسطّر له سلوكه في المستقبل وتلغي حرّيته ولن يفلح اجتهاده في كسرها أو الخروج عنها، وكأنّه قضاء وقدر من نوع جديد. وبلغ الأمر بكانط في حديثه عن هذه الطبيعة الإنسانية المشتركة بين النّاس إلى حدّ المساواة بين رجل الغابة والبرجوازي أي رجل متوحّش بالكاد يجد ما يسدّ رمقه وبين رجل مدني يعيش في رفاهية.

5)نـقـــــــــــــــــد

إن ما دفع سارتر وغيره من الوجوديين إلى رفض تنزيل مبدأ "الماهية تسبق الوجود" على الإنسان هو أنّه يساوي الإنسان ببقيّة الأشياء المادّية المصنوعة كما أنّه يلغي الحرّية والمسؤولية. وباختصار الإقرار بهذا المبدأ معناه الحطّ من قيمة الإنسان والإقرار بعبثيّة الوجود الإنساني.

مع الفلسفة الوجودية نكتشف توجّها جديدا للفلسفة لم نشهده في تاريخها. فالإنسان لم يعد يدرس كظاهرة من بين ظواهر الطبيعة كتلك الدراسات التي نجدها عند أرسطو (الإنسان حيوان ناطق) أو عند ديكارت (الإنسان جوهر مفكّر). مع الفلسفة الوجودية أصبح الإنسان محور الوجود وأصبحنا نهتمّ بحياته أي بسعادته وحرّيته وهمومه... أكثر ممّا نهتمّ معرفته بموضوعية. لم نعد نبحث عن معرفته كما نعرف الأشياء بل أصبحنا نبحث عن إنقاذه وننظر إليه ككائن فاعل له احتياجات ورغبات ومواقف ولهذا السبب سمّيت الفلسفة الوجودية بالوجودية لأنّها اهتمّت بمشاكل الوجود الإنساني أو بالإنسان في حياته اليومية.

ولسائل أن يسأل لماذا هذا التحوّل في نظرة الفلسفة للإنسان؟ السبب هو التالي: تطوّر الوعي الإنساني أفضى به إلى تقديس نفسه. قبل قرون كان وعي الإنسان موظّفا في خدمة حاجياته الغريزية الأكل والكساء والمأوى...في تلك الفترة كانت تلبية  الحاجيات الجسدية هي محور الوجود الإنساني بحيث كان الوعي مجرّد أداة في خدمة الجسد. لكن بتطوّر الوعي أصبح الوعي كيانا مستقلاّ عن الجسد. له هو أيضا حاجياته كالحرية والإبداع والفنّ والفهم والشعور بالقيمة وتذوّق الجمال. اكتشف الوعي قيمته في هذا العالم وأصبح  يقيّم وجوده بل ويتكبّر حتّى عن هذا الوجود. ولم يعد الوعي أو الإنسان ينظر لنفسه على أنّه جزء من هذا العالم تنسحب عليه الحتميّة والجبرية كما تنسحب على الجمادات، بل أصبح ينظر لنفسه على أنّه كائن واع غريب في عالم مادّي ووجوده فيه معجزة لم يقبلها إلا عن مضض. ولله درّه ألبار كامي عندما يقول في مفتتح كتابه "أسطورة سيزيف" "لا يوجد إلا مشكل فلسفي واحد جدّي: هو الإنتحار. الحكم على أن هذه الحياة تستحقّ أو لا تستحقّ أن تعاش هو الإجابة على عن السؤال الأساسي في الفلسفة".  نلاحظ هنا تكبّر الفيلسوف الوجودي على الوجود. فهو أرفع من الوجود، وكأنّه لم يوجد بعد ويتساءل هل يستحقّ هذا العالم أن أوجد فيه أم أنّي بوجودي فيه أحطّ من قيمتي وألوّث نفسي. فأنا بوجودي فيه أشرّفه وليس هو الذي يشرّفني. هذا الوعي المهموم بالحفاظ على قيمته هو الذي أفرز الفلسفة الوجودية. لكن هذا لم يصبح ممكنا إلاّ بعد أن تخلّص الوعي من الاقتصار على خدمة الجسد وأصبح يلتفت لنفسه.

 


 



Enregistrer un commentaire

0Commentaires

Please Select Embedded Mode To show the Comment System.*

To Top