2. تاريخ العلوم في نظر رشدي راشد

ECRITS
0
                                                                     

حسن الولهازي (تونس)

تحليل نصّ : أي اختصاص معرفي هو تاريخ العلوم؟
يقول رشدي راشد:
"أي اختصاص معرفي هو تاريخ العلوم، هذا الاختصاص الذي ظلّ ينتسب منذ بدايته، باعتباره نشاطا مستقلاّ في القرن الثامن عشر، إلى الإبستيمولوجيا والتاريخ معا؟ فلو فكّرنا في أعمال كوندرسيه (Condorcet) سواء في "المخطّط الإجمالي" (Esquisse) أم في "التقريظات" (Eloges académiques) أو فكّرنا في أوغست كونت (Auguste Comte) وفي الدور الذي يوليه إلى تاريخ العلوم في "دروس في الفلسفة الوضعية" (Cours de philosophie positive)، وإذا اقتربنا أكثر من زماننا الحاضر ذاكرين على سبيل المثال ج.نيدام (Needham)، فإنّنا نطرح السؤال نفسه، هل يمثّل تاريخ العلوم اختصاصا معرفيا حقّا وما هي بالتحديد منزلته بين الإبستيمولوجيا والتاريخ؟
 أمّا الجزء الأوّل من السؤال (هل هو فعلا اختصاص معرفي؟) فينحلّ بسرعة. إنّ تاريخ العلوم، كما يتبادر في كتابات المنتسبين إليه لا يمثّل فنّا مختصّا، بل ميدان نشاط، إذ ينقصه مبدأ التوحّد الذي قد يمنحه القدرة والوسائل الكفيلة بتمييزه عن طريق الإقصاء. إنّ أي ميدان للممارسة لا يقصي بل هو يتوسّع توسّعا غير محدود وذلك بإضافات متواترة، إنّه عنوان لمواضيع مختلفة ومتنافرة وليس فنّا مختصّا ذا تعريف إجرائي. لذلك تتجاوز في تاريخ العلوم المذاهب المختلفة وتتعارض انطلاقا من توجّهات واعتقادات يقصي بعضها بعضا. فيرى البعض وهم الغالبية، أن تاريخ العلوم هو تاريخ للأفكار بالمعنى المعروف للعبارة أي تاريخ للعقليات. في حين يرى البعض الآخر وهم أكثر صرامة وفطنة أن تاريخ العلوم هو تاريخ المفاهيم العلمية، تاريخ تكوّنها وتطوّرها وتعديلها. ويرى آخرون وهم مؤرخون في  أصل تكوينهم، أنّه لا يبالي بالمفاهيم وبطبيعتها الخاصّة، بل أن تاريخ العلوم قد يكون تاريخ إنتاج ثقافي على غرار تاريخ الرسم أو تاريخ الأديان. ولنذكر أيضا أولئك الذين يجعلون منه ضربا من علم النفس الاجتماعي للعلماء، وكذلك الذين يجعلون منه علم اجتماعي ميداني على النحو الذي تطوّر عليه علم الإجتماع إثر الحرب العالمية الثانية بالولايات المتّحدة على وجه الخصوص، أي علم اجتماع للجماعات والمخابر والمؤسسات. لم يكتمل هذا الثبت بعد، فهذا التنوّع يتزايد تزايدا لا تقتضيه ضرورة داخلية للبحث في تاريخ العلوم، بل بتأثير استيراد مستمرّ لرؤى ولمناهج العلوم الاجتماعية.
يبدو هذا التكاثر وكأنّه هروب إلى الأمام ثد يغني عن الإجابة عن الجزء الثاني من السؤال، ما هو موقع تاريخ العلوم فيما بين الإبستيمولوجيا والتاريخ؟ إلاّ أن هذا السؤال إن تركناه في الخفاء، يجبرنا –شئنا أم كرهنا- على الافصاح  عن موضوع تاريخ العلوم. كلّ الصعوبة وهي ذات بال، تمثّل في التعبير عن الشيء الذي يؤرّخ له بدون التحيّز إلى اختيار اعتباطي وبدون تسليط منهجية معيّنة تجريبية كانت أو متعالية (transcendantale). لذلك، تجنّبا لهذه الصعوبات، يبدو لي من الأنسب أن ننطلق "من الأشياء نفسها" كما يقال، أي من الأعمال العلمية ومن السنن التي تندرج ضمنها".
نصّ لـرشدي راشد من كتابه "دراسات في تاريخ العلوم العربية وفلسفتها"
 من فصل : تاريخ العلوم بين الابستيمولوجيا والتاريخ.
قام بتعريب الفصل حاتم الزغل.


مخطّط النصّ
Iـ بعض الدراسات الفلسفية تبعث فينا التساؤل عن تاريخ العلوم: هل هو اختصاص معرفي مستقلّ بذاته أم هو تابع لمجالات أخرى؟
من بداية النصّ ← إلى قوله منزلته بين الإبستيمولوجيا والتاريخ؟
IIـ  تاريخ العلوم هو ميدان نشاط وليس اختصاصا معرفياّ ومبرّرات ذلك هي:
1.تاريخ العلوم لا يتميّز بموضوع محدّد ومنهج مضبوط فهو ميدان شاسع يضمّ مواضيع متنافرة.  
من "أما الجزء الأوّل من السؤال"  ← إلى "واعتقادات يقصي بعضها بعض"
2.المواقف المختلفة لمؤرخي العلوم من تاريخ العلوم تثبت أنّه ميدان نشاط وليس اختصاصا معرفيا
من "فيرى البعض وهم الغالبية ← إلى "لمناهج العلوم الاجتماعية".
أـ تاريخ العلوم هو تاريخ للأفكار
ب ـ تاريخ العلوم هو تاريخ المفاهيم العلمية
ج ـ تاريخ العلوم هو تاريخ إنتاج ثقافي
د تاريخ العلوم هو ضرب من علم النفس الاجتماعي للعلماء
هـ ـ تاريخ العلوم هو علم اجتماع ميداني
IIIـ ليس المهمّ موضوع تاريخ العلوم ولكن المهمّ هو الموضوعية التي يجب أن ينتهجها الدّارس
من "يبدو هذا التكاثر ← إلى آخر النصّ.

*************************************

المقدّمـــــــــــــــــــة

يقول هيجل في المجلّد الأوّل من كتابه "أصول فلسفة الحقّ" إنّ الفلسفة على أيّ حال تأتي دائما متأخّرة جدّا" والمقصود بذلك هو أن الفلسفة باعتبارها تفكيرا تحليليّا نقديا لا يبدأ عملها إلاّ بعد أن يقطع الواقع الحضاري الإنساني في بعديه المادّي والرّوحي شوطا هامّا في تكوّنه. وتجسّد الدّراسات في تاريخ العلوم هذه المهمّة للفلسفة بامتياز. فهي دراسات فلسفية تشكّلت بعد أن أصبح للعلوم تاريخ. ويمكن أن نستشفّ من هذه التسمية "تاريخ العلوم" حجم الصعوبات التي تعترض هذه الدّراسات الفلسفية.
ـ فمن كلمة "تاريخ" نكتشف أن هذه العلوم استغرقت زمنا في تشكّلها وشهدت قطيعات ابستيمولوجية وهذا ما يعقّد عملية الإلمام بمختلف المراحل التي مرّ بها علم من العلوم.
ـ ومن كلمة "علوم" نكتشف أنّها مجالات معرفية عديدة تضمّ العلوم الرياضية والطبيعيّة والإنسانية وغيرها. فهل يمكن لفرع معرفي يسمّى "دراسات في تاريخ العلوم" شرف السيادة والرّيادة على كلّ المعارف ويحوّلها إلى موضوع دراسة؟
إن هذه الصعوبات التي نستشفّها من كلمتيْ "تاريخ" و"علوم" تدفعنا إلى الإشكالية التالية:
الإشكاليــــــــــــــــــــــة
هل أن دراسات تاريخ العلوم هي اختصاص إلى جانب اختصاصات أخرى أي فرع معرفي قائم الذات له موضوعه وضوابطه ولكن ميزته هو أنّه اختصاص الاختصاصات أو علم العلوم أم أنّها شتات من الدّراسات المتنافرة الملتصقة بما تدرس بحيث يكون الاختلاف بين العلوم نفسها قد تحوّل إلى اختلاف بين الدراسات التي تدرسها؟ ثمّ إذا عرفنا أن علم التاريخ يدرس التاريخ والابستيمولوجيا تدرس العلوم تساءلنا ما الذي يفرّق تاريخ العلوم عن التاريخ وعن الابستيمولوجيا؟

التحليــــــــــــــــــــــــل
Iـ بعض الدراسات الفلسفية تبعث فينا التساؤل عن تاريخ العلوم: هل هو اختصاص معرفي مستقلّ بذاته أم تابع لمجالات أخري؟
قد يستغرب البعض من الإشكالية المطروحة سابقا ويعتبرها إشكالية مفتعلة. فتاريخ العلوم هو تاريخ العلوم. فأين هو المشكل؟ الواقع أن المشكل الذي يطرحه تاريخ العلوم لا يفهم إلاّ بمعرفة جذوره. فكيف تأتّى لنا طرح هذا السؤال: "أيّ اختصاص هو تاريخ العلوم؟"
عندما نتأمّل مختلف الدّراسات لتاريخ العلوم نقف على طرق مختلفة في معالجة العلوم توقعنا في حيرة تمسّ مفهوم هذه الدّراسات وحدودها وموضوعها. ويمكن أن نذكر في هذا الصدد طريقتين بارزتين في دراسة التراث العلمي والمعرفي عموما.
الطريقة الأولى: هناك دراسات للعلوم هي عبارة عن موسوعات أو مسح لمختلف المعارف، تنتهي إلى تبويبها وتنظيمها مثلما قام به أوغست كونت (فرنسي 1798/1857 ) في "دروس الفلسفة الوضعية" أو كوندرسيه (فرنسي 1743/1794) في كتابه "مخطط إجمالي في لوحة تاريخية لتقدّم الفكر الإنساني"
 des progrès de l’esprit humain » Esquisse d’un tableau historique « 
عادة ما تكون الغاية من هذا المسح التاريخي للمعارف هي إثبات قناعات الكاتب بحيث تكون هذه الدراسات للمعارف ليست دراسات موضوعية لها وإنّما لغاية توظيفها. وقد انتهى أوغست كونت من دراسته لتاريخ المعارف إلى تقسيم تاريخ الفكر الإنساني إلى ثلاث مراحل هي المرحلة اللاهوتية والمرحلة الميتافزيقية والمرحلة الوضعية وكلّ ذلك لغاية نقد المرحلتين اللاهوتية والميتافيزيقية وتمجيد المرحلة الوضعية. وقد كانت غاية كوندرسيه من المسح الذي قام به لتاريخ العلوم والمعارف عموما هو الدّفاع عن التقدّم وعن كلّية القوانين l’universalité des lois . كما نقد اللاهوت واعتبر أن العلوم هي أساس التقدّم.
ولا يفوتنا في هذا الصدد ونحن نتعرّض للفلاسفة الذين وظّفوا تاريخ العلوم والمعارف لتبرير قناعات فلسفية أن نشير إلى هيجل. فقد اعتبر كلّ الأشكال الثقافية بما في ذلك العلوم هي مجرّد تجلّيات للرّوح المطلق عبر التاريخ. فهل ما قام به هيجل وأوغست كونت وغيرهما هو دراسة لتاريخ المعارف أم هو استغلال لهذا التاريخ؟ الواقع أنّه تفلسف في تاريخ المعارف. وكلّ تفلسف بهذا الشكل، يستشهد بهذه المعارف أكثر من أنّه يدرسها. هل كلّ دراسة لتاريخ العلوم والمعارف عموما هي لغايات فلسفية تتجاوزها؟
الطريقة الثانية: الواقع أنّه ليست كلّ الدراسات الفلسفية لها هذا التوجّه السابق، هناك دراسات هي بحقّ دراسات لتاريخ العلوم. ومن أمثلة هذه الدراسات، الدراسات التي قامت بها جماعة "بورباكي" وكافياس في الرّياضيات ودراسات باشلار وكويري وپيار دوهام في الفيزياء ودراسات رسّل وكارناپ وفراڨ في المنطق. كلّ هذه الدراسات مختصّة وملتصقة بمواضيعها. وأصحابها لهم تكوين علمي محترم. بل إن البعض منهم تحوّل من العلم إلى الفلسفة مثل رسّل واينشتاين وأرنست ماخ وماكس بلانك وفرنر هايزنبرغ ولوي دو بروي.
عندما نقارن بين الطريقة الأولى في التعامل مع تاريخ العلوم والطريقة الثانية نحتار في ضبط معالم تاريخ العلوم. أي اختصاص هو تاريخ العلوم؟ هل هو دراسة للعلوم أم دراسة لموضوع آخر باستغلال العلوم كأن يكون هذا الموضوع الروح المطلق أو الفكر أو الحضارة أو الإله أو الملكية أو الدولة...
IIـ تاريخ العلوم هو ميدان نشاط وليس اختصاصا معرفيا
1) تاريخ العلوم ميدان شامل لا يقصي موضوعا ولا يدرس موضوعا بعينه بمنهج بعينه
إن العوامل التي أفضت بنا إلى الحيرة هي سبيل الخروج منها. فماذا يعني الاختلاف بين هذه الدراسات؟ يعني ذلك بكلّ بساطة أن هذه الدّراسات لا يجمع بينها إلاّ الاسم هو: تاريخ العلوم. وانضواء هذه الدراسات تحت اسم واحد هو تاريخ العلوم، لا يشبه التجاور الذي نجده بين الجبر والحساب في الرياضيات أو بين الميكانيكا والسينيماتيقا في الفيزياء. لذلك الأجدر أن نقول عن تاريخ العلوم إنّه ميدان نشاط وليس اختصاصا معرفيا. فهو يعرّف بالنشاط الإنساني الباحث أكثر ممّا يعرّف بموضوع مضبوط أو بتعبير آخر يعرّف بالرّجوع للإنسان وليس بالرّجوع للموضوع المدروس. إنّ تكدّس المواضيع المدروسة في تاريخ العلوم فرقع وحدة هذا العلم. إنّه مجال لا يقصي موضوعا. والفرق بينه وبين علم ما هو كالفرق بين صحراء مترامية الأطراف ومستودع سيّارات له مساحة مضبوطة تحدّها أربعة جدران. فالمستودع لا يقبل إلاّ السيّارات فقط حتّى الدرّاجات لا تدخلها بينما الصحراء ترعى فيها الإبل وتمرّ بها القوافل وتسكنها الزواحف وتقبل كلّ من يطلبها.
← نستخلص ممّا سبق أن تعدّد مواضيع تاريخ العلوم وتنافرها هو الذي حمل الكاتب على النظر إلى تاريخ العلوم كميدان نشاط لا كفرع معرفي محدّد. لا يبدو الكاتب متجنّيا في حكمه على تاريخ العلوم لأنّ هذا الحكم مبني على واقع تاريخ العلوم.
ولكن لنفترض أن الكاتب لم يدرك الرّابط بين مختلف مواضيع تاريخ العلوم، فهل كشف عنه مؤرّخو العلوم أنفسهم؟ أليسوا أهل الميدان؟ فلو سألنا مؤرّخي العلوم عن موضوع تاريخ العلوم فماذا تراهم يقولون؟
2) المواقف المختلفة لمؤرّخي العلوم من تاريخ العلوم تثبت أنّه ميدان نشاط وليس اختصاصا معرفيا
أـ يرى بعض مؤرّخي العلوم أن تاريخ العلوم هو تاريخ للأفكار أي نجد فيه عرضا لمضمون معرفي تشكّل عند دراسة مواضيع معيّنة. كأن نعرض موقف أرسطو من الحركة وموقف نيوتن منها ونتعدّى ذلك لبيان الطابع الإحيائي في فيزياء أرسطو والطابع الميكانيكي في فيزياء نيوتن. وهنا نتحوّل إلى الحديث عن العقليات أو عن المنظومات الفكرية.
ب ـ يرى البعض الآخر أن تاريخ العلوم هو تاريخ المفاهيم العلمية. فكلّ نظرية أو منظومة فكرية تتأسّس على مفاهيم مفاتيح هي المحور الذي تدور حوله النظرية. كمفهوم اللاشعور عند فرويد (نمساوي 1856/1938) أو المادية الجدلية والمادية التاريخية عند ماركس (ألماني 1818/1883) أو النسبية عند اينشتاين أو الجاذبية عند نيوتن أو مفهوم العطالة عند ديكارت (فرنسي 1596/1650).
ج ـ وترى المجموعة الثالثة إن تاريخ العلوم هو تاريخ إنتاج ثقافي. فهذه المجموعة لا يهمّها من تاريخ العلوم سوى تأثير هذه العلوم في العصر الذي وجدت فيه وفي بقية الأشكال الثقافية السائدة. كأن تستجلي الأبعاد الحضارية للثورة الكوبرنيكية أو الصراع بين ڤاليلاي والكنيسة. أو تكشف عن دور الديناميكا الحرارية في ظهور الثورة الصناعية.
د ـ ترى المجموعة الرّابعة في تاريخ العلوم ضربا من علم النفس الاجتماعي للعلماء. فهي تفسّر الاكتشافات العلمية بالحالات النفسية التي تنتاب العلماء في علاقتهم بمحيطهم وهكذا يرجعون عبقرية نيوتن إلى رغبته في التخلّص من خجله المفرط. ويعتبرون أن عبقرية اينشتاين ظهرت منذ طلاقه من السويسرية وعودته إلى ابنة عمّه الألمانية.
هـ ـ المجموعة الخامسة ترى في تاريخ العلوم علم اجتماع للجماعات والمخابر والمؤسسات أي هو دراسة لكيفية تشكّل العلوم من الناحية التقنية والإجرائية والسيّاسية.
← ماذا يعني اختلاف مؤرخي العلوم حول موضوع تاريخ العلوم؟
III- ليس المهمّ في تاريخ العلوم الموضوع ولكن الموضوعية التي يجب أن ينتهجها الدّارس
عدم اتفاق مؤرخي العلوم على موضوع تاريخ العلوم يعني:
أوّلا: أن سؤال: ما هو موقع تاريخ العلوم فيما بين الإبستيمولوجيا والتاريخ؟ هو سؤال لاغ وثانوي بحيث يجب أن نتوقّف عن طرحه. وما حاجتنا لأن نعرف موقعه من الإبستيمولوجيا والتاريخ وقد ضمّ علم النفس وعلم الاجتماع والسياسة وغير ذلك. فالاتساع الذي يتميّز به لا يجعلنا نستغرب احتواءه على بحوث متنوّعة بما فيها الإبستيمولوجية والتاريخية. فهذا الإتساع والتضخّم هو الذي عبّر عنه الكاتب ب"الهروب إلى الأمام".
ثانيا: نكتشف ثانيا أن العلوم ليست هي الموضوع الوحيد والرئيسي الذي يجمع مؤرخي العلوم. فهناك من يدرس العلوم ولكن هناك من يجانبها ويركّز على أمر آخر وهناك من يشير إليها فقط ليتعدّاها إلى مسائل سياسيّة واجتماعية ونفسية وغيرها.
ثالثا: هذه المواقف المختلفة من تاريخ العلوم ليست في خدمة العلوم بل هي في خدمة الفلسفة لأنّ هذه الدّراسات هي عبارة عن ساحة حرب فكرية. يقول الكاتب"تتجاور في تاريخ العلوم المذاهب المختلفة وتتعارض انطلاقا من توجّهات واعتقادات يقصي بعضها بعضا".
رابعا: إن الاستنتاج الأخير الذي انتهينا إليه يبيّن أن المشكل في تاريخ العلوم ليس افتقاره لموضوع محدّد بل هو افتقار مؤرخ العلوم للموضوعية اللازمة. فبسبب غياب الموضوعية ظهرت عدّة مشاكل. فلم تُدرس العلوم بل وظّفت واستغلّت لتبرير مواقف ايديولوجية. يقول الكاتب "كلّ الصعوبة وهي ذات بال تتمثّل في التعبير عن الشيء الذي يؤرخ له بدون التحيّز إلى اختيار اعتباطي وبدون تسليط منهجية معيّنة". فما لم يتحلّ مؤرخ العلوم بالموضوعية     l’objectivitéسيظلّ تاريخ العلوم يتّسع إلى ما لا نهاية وستظلّ دراسة العلوم وسيلة لا غاية في حدّ ذاتها. فهل يقدّم الكاتب حلاّ أو سبيلا لإرساء الموضوعية في تاريخ العلوم؟
يرى الكاتب أن السبيل للموضوعية هو أن نكفّ عن الخوض في معالم تاريخ العلوم وأن لا نتخّذ موقفا منه ومن موضوعه. كلّ هذه المواقف يجب أن تكون لاحقة عن دراسة العلوم لا أن نباشر بها العلوم. أن تكون لاحقة معناه أن نقدّم عليها ما من أجله قامت الدّراسات في تاريخ العلوم وهو الأعمال العلمية والسنن التي تندرج ضمنها.

النقـــــــــــــــــد

هل أن اعتقاد الكاتب أن الموضوعية هي الكفيلة بتقريب وجهات النظر بين مؤرخي العلوم وبالتالي الكفيل بالحدّ من شساعة تاريخ العلوم، هل هذا الاعتقاد سليم؟ هل هذا الانزلاق من الحديث عن موضوع تاريخ العلوم إلى الموضوعية التي يجب أن يتحلّى بها الدّارس هل هذا الانزلاق مبرّر؟
الواقع أن النتيجة التي انتهى الكاتب هي نتيجة غير متوقّعة وغريبة عن بداية النصّ وعن مساره بشكل عام. فالنصّ في بدايته يتساءل هل يمكن أن يختصّ تاريخ العلوم بموضوع يخصّه ويميّزه عن بقيّة البحوث الأخرى، فإذا بنا ننتهي في نهاية النصّ إلى ما يجب أن يتحلّى به مؤرخ العلوم. فبداية النصّ تتعلّق بتاريخ العلوم ونهايته تتعلّق بمؤرخ العلوم. ورغم هذا الانتقال من الموضوع إلى المنهج فقد قدّم الكاتب موضوع تاريخ العلوم في نهاية النصّ وموضوعها هو "الأعمال العلمية والسنن العلمية التي تندرج ضمنها".
وحول الموضوعية التي يبدو أنّها تحتل منزلة محترمة في نفس الكاتب فإنّ دعوته إليها تبدو كنصيحة أخلاقية أكثر منها إجراء منهجي صارم لأنّ حتّى في صورة تشبّث الدّارس بالموضوعية فهو مضطرّ للتحليل والتأويل والاستنتاج وفي هذا النشاط الذهني يعكس شخصيته وميوله ومواقفه. فالأحداث أو كما قال الكاتب الأعمال العلمية في حدّ ذاتها منظورا إليها في صمت (أي بدون تأويل) لا تبني علما ولا تقدّم معرفة.

الخاتمــــــــــــــــــــــــــة

ما هو غير مفهوم عند الكاتب هو استغرابه من تنافر مواضيع تاريخ العلوم، الأمر الذي لا يسمح لهذا التاريخ أن يكون اختصاصا معرفيا. ولسائل أن يسأل وما حاجتنا لاختصاص معرفي مضبوط المعالم؟ هل نسي الكاتب أنّنا في مجال الفلسفة وأن تاريخ العلوم هو فرع من الفلسفة والفلسفة هي ميدان الاختلاف؟ ألأنّ تاريخ العلوم يدرس العلوم يجب أن يكون علما بدوره؟ نفهم من موقف الكاتب من تاريخ العلوم أنّه يقدّم العلوم على الفلسفة وهي ميزة أغلب الإبستيمولوجيين بل هناك من ذهب إلى حدّ اعتبارها عائقا ابستيمولوجيا وينسى هؤلاء أن للإنسان حاجة ملحّة للتعبير عن مواقفه لا تقلّ عن رغبته في المعرفة.


Enregistrer un commentaire

0Commentaires

Please Select Embedded Mode To show the Comment System.*

To Top