43. الحـبّ الحقـيـقـي

ECRITS
0

حسن الولهازي (تونس)

الحـبّ الحقـيـقـي

  رغبتنا في شخص ما، وتمسّكنا به يفهم عادة على أنّه حبّ ويصرّح الرّاغب أنّه يحبّ. وهو يحبّ بالفعل ولكن الحبّ أشكال إن صحّ التعبير. فما هو النوع السّامي الجدير باسم الحبّ؟ ما هو الحبّ الحقيقي وما هو الحبّ الذي يظهر لنا كذلك، وهو في الواقع ليس بحبّ؟
 ماذا يجري عندما نرغب في أشياء معيّنة: كرغبة المريض في الشفاء ورغبة المظلوم في العدل ورغبة السيّد الإقطاعي في نموّ ثروته ورغبة الفلاّح في جمع محصوله و رغبة الزوجة في شراء جواهر...؟ الواقع هو أن هذه الرّغبات لا تتحقّق إلاّ عن طريق أناس نحتكّ بهم. فشفاء المريض لا يكون إلا عن طريق طبيب أو شخص يلعب دور الطبيب. وظفر المظلوم بحقّه لا يكون إلا ّ بواسطة قاض عادل. ورغبة الإقطاعي في نموّ ثروته لا يكون إلاّ بواسطة الخدمات التي يسديها له عبيده. ماذا يتجلّى من هذه الأمثلة؟ يتجلّى لنا أن هناك أشخاصا يرغبون في أمور لكن هذه الأمور لا تتحقّق إلاّ بواسطة أشخاص آخرين، بحيث يمكن أن نتحدّث عن أشخاص يرغبون وأشخاص يحقّقون رغبات غيرهم. هل أن الأشخاص الذين يحقّقون رغبات غيرهم هم محبوبون فعلا من الأشخاص الذين يرغبون؟ الواقع أنّهم محبوبون بالقدر الذين يخدمون فيه رغبات غيرهم. فهم ليسوا محبوبين لذاتهم. هل نسمّي حبّنا لشخص لأنّه وسيلة لخدمتنا حبّا؟ يصعب أن نعتبره حبّا حقيقيّا. الواقع أنّنا نحبّ أمرا آخر يقوم هذا الشخص بتحقيقه لنا. إنّ السيّد الذي يخاف على عبده من المرض والموت هل يخاف عليه لأنّه جدير بالاحترام والحياة ويساوي سيّده في حقّ العيش المحترم والصحّة الجيّدة؟ طبعا لا! هو يخاف عليه لأنّ بموته سيفقد الخدمات الجليلة التي يسديها له. فهو إن كان يحبّه فهو لا يحبّه لشخصه وإنّما لخدماته. واضح ممّا سبق أن هذا الحبّ مرتبط أشدّ الارتباط بالاستغلال. فما هو الحبّ الحقيقي؟
الحبّ الحقيقي هو انجذاب شخص نحو آخر وهو انجذاب منزّه عن المصالح والمنافع أساسه الوحيد هو قيمة الشخص المحبوب بالنسبة للمحبّ. ولمن يريد أن يفهم جيّدا معنى الحبّ الحقيقي، هناك صورة يجب أن نعتبرها مثالية وكلّ حبّ آخر جدير بهذا الاسم يجب أن يقاس بها لمعرفة حقيقته. وهذه الصورة هي حبّ الأمّ لرضيعها. حبّ الأمّ لرضيعها تتجلّى فيه أصدق وأسمى معاني الحبّ. ذلك هو الحبّ الحقيقي الصادق. ما هي مصلحة الأم الشخصية من حبّها لرضيعها؟ لا شيء! عكس ذلك بسبب هذا الحبّ تشقى كثيرا، تسهر وتنظّف وتهدهد وتجد في شقائها لذّة. وتجد في نموّ رضيعها وفي بسمته ولعبه وهو موفور الصحّة، متعة لا تضاهيها متعة. الحبّ الحقيقي إمّا أن يكون تضحية بلا حساب أو لا يكون. كلّ من يدّعي أنّه يحبّ شخصا آخر عليه أن يقيس حبّه بحبّ الأم لرضعيها. قد يعترض معترض على هذا التعريف بالقول إنّه لا يمكن أن نضع تعريفا مطلقا يوحّد كلّ أشكال الحبّ، فلا يجوز مثلا أن نتحدّث عن حبّ المرأة لزوجها وحبّها لابنها بنفس المعنى. مهما كان هذا الحبّ ومهما كان الشخص المحبوب حبّ الأم لرضيعها أو حبّ المرأة لزوجها أو حبّ الأب لأبنائه أو حبّ البنت لأبيها أو حبّ التلميذ لمعلّمه أو حبّ المهاجر لوطنه... هناك دائما انجذاب سببه القيمة التي يوليها المحبّ للمحبوب ولا شيء آخر. وهذا الانجذاب بالمعنى الذي صوّرناه كاف للحديث عن الحب الحقيقي. إذا كان هناك شخص أنت مستعدّ لتنزع ثيابك لتغطّيه، ومستعدّ لتردّ اللقمة التي توجّهها لفمك لتوجّهها إلى فمه فأنت تحبّه مهما كان هذا الشخص زوجا أم زوجة، ابنا أم ابنة، أبا أم أمّا... إذا لم تكن مستعدّا لذلك فلتقرأ على حبّك المزعوم السّلام ولا تغالط نفسك. من غرائب الأمور أن ذلك الحبّ النزيه الصافي الذي نجده بين الأمّ ورضيعها، عادة ما يتحوّل في ما بعد بين الابن –وقد أصبح كهلا- وأمّه. فيحبّها حبّا صادقا صافيا ويخاف أن يصيبها أي مكروه ويصرف من ماله ويبذل قصارى جهده ليراها سعيدة. ولا يدخل هذا المجهود في خانة ردّ الجميل فليس هناك حسابات. يقوم بذلك لأنّ هذا ما يجب أن يكون، لأنّه يحبّها ويتمنّى لها كلّ الخير. سعادته وراحته في سعادتها وهنائها. تماما كما كانت هي تفعل. طبعا هناك للأسف الشديد عقوق من قبل البعض.
قد يعترض معترض بالقول إن الحبّ الحقيقي كما وقع تصويره لا يخلو هو نفسه من نزعة نفعية. فالأم تعتني برضيعها لأنّها تبحث عن سعادتها وسعادتها في أن يكون رضيعها موفور الصحّة. من يعترض بهذا الشكل يخلط خلطا شنيعا ويدنّس ما هو سام. يكون كلام هذا المعترض صحيحا لو كانت الأمّ تبحث عن سعادتها رأسا ولذلك تعتني بابنها لاحقا. بحيث تكون العناية برضيعها وسيلة والبحث عن سعادتها غاية. ولكن هذا غير واقع. الأمّ تبحث عن سلامة رضيعها ورفاهيته وراحته وبتحقّق ذلك تكون سعادتها. فراحة ابنها هدفها وديدنها، وراحتها لا تبحث عنها ولكن تحصل كتابع أو لاحق من لواحق راحة رضيعها. وهنا يصحّ أن نقول بحقّ إن راحتها في راحة رضيعها.
الآن وقد أنهيت الحديث في التفريق بين الحبّ كاستغلال والحبّ كتضحية، أريد أن أعرّج على مسالة جانبية نسبيّا.
 *هل أن الشابّ الذي يحبّ فتاة لأنّه أُسّر بجمالها الباهر، هل هو حبّ حقيقي أم حبّ نفعي؟
 أكيد أن هذا الحبّ هو حبّ حقيقي إذ طالما أن الشخص الذي ننجذب نحوه نعتبر أن له قيمة وأساس هذه القيمة مستمدّ من صفات شخصية حميدة (لجماله، لأخلاقه، لذكائه،...) فهناك حبّ حقيقي بالفعل. طالما نحن في حدود الشخص ولم نتعدّاه ولم نتّخذه وسيلة فهناك حبّ حقيقي. لكن لو كان هذا الشابّ يحبّ هذه الفتاة لأنّها ابنة وزير وهو يطمع من وراء التقرّب إليها في الحصول على وظيفة سامية عندئذ يكون حبّه وضيعا. ولمن هو معترض على هذا الموقف أسأله، إذا لم يحبّ هذا الشابّ هذه الفتاة لجمالها أو لأخلاقها أو لذكائها أو أيّ صفة حميدة أخرى فلأيّ شيء سيحبّها إذا؟ هل سيحبّها لقبحها ولعجرفتها وغبائها؟ وهل لهذه الفتاة شخصية أخرى –يمكن من أجلها أن تحبّ- بمعزل عن صفاتها وأخلاقها وجسمها؟
هناك مسألة ثانية أريد أن أعرّج عليها.
*هل أن مشاغل الحياة اليومية تقضي على الحبّ  الحقيقي؟
رأينا سابقا أن الباعث على الحبّ الحقيقي هو القيمة التي يوليها الشخص المحبّ للمحبوب ولذلك فما يقضي على الحبّ ليس مشاغل الحياة اليومية ولكن فقدان المحبوب لتلك القيمة التي كان يوليها المحبّ له. فالرّجل الذي أحبّ زوجته لجمالها أكيد سيفقد حبّه لها إذا تمسّك بأن الجمال هو القاعدة الوحيدة التي يبنى عليها حبّ الرّجل للمرأة، لأنّ المرأة ستفقد جمالها تدريجيا بفعل الزمن وبفعل مشاغل الحياة اليومية مثل العمل الوظيفي والطبخ والكنس والغسيل... لكن قد يكتشف الزوج صفات في زوجته تجعلها محافظة على قيمتها في عينه رغم فقدانها لجمالها مثل الذكاء وحسن تدبير المنزل والأخلاق الرفيعة وخاصّة... الصبر على إيذائه لها. وهكذا يتغيّر أساس القيمة ولكن تظلّ القيمة موجودة ويتواصل الحبّ.   
Tags

Enregistrer un commentaire

0Commentaires

Please Select Embedded Mode To show the Comment System.*

To Top